المشهد في مصر هذه الأيام حزين، لا يمكن أن يقال عنه أقل من ذلك. أكتب من هناك بعد أن شهدت عطلة مليونيات الرفض والتأييد، وتحدثت مع كثير من الناس، والنتيجة ببساطة أن مصر التي جاءت بالربيع تعيش اليوم مخاضاً صعباً لا يسرّ من يحب مصر وأهلها. لقد مثّلت مصر حالة خاصة وسبقاً تاريخياً في استخدام الإعلام الاجتماعي في «تعبئة» الشارع المصري في مطلع 2011م لتنتج عنه ثورة مصر وإزالة نظامها الديكتاتوري، وتعاضدت القنوات الفضائية مع الشبكات الاجتماعية في صناعة الإنجاز الذي رسمه أهل مصر في الشارع. اليوم، لدينا سبق تاريخي جديد، حيث تقوم وسائل الإعلام نفسها (الإلكترونية والفضائية) بتعبئة الشارع نفسه لينقسم بشكل حاد، حيث يسعى كل فريق للحفاظ على الإنجاز بطريقته ومن وجهة نظره، وبينما في الحقيقة تدفع مصر ثمن هذا الانقسام على مختلف الأصعدة. لا يمكن في الحقيقة لأمة أن تعيش هذه الحالة من التسييس والنقاش الجدلي حول قضايا سياسية وقانونية دقيقة، إلا وتعطلت حياتها المدنية وتوقفت عجلتها الإنتاجية على مدى طويل. تماما كما نشرت مئات الدراسات التي تتحدث عن الإعلام الجديد والفضائي وكيف صنعت ثورة مصر، نحتاج دراسات أكثر للحديث عن دورها في صناعة الانقسام. يوم السبت الماضي كانت هناك هجمة هائلة على الإعلاميين، ورد بعض الإعلاميين بعنف وتحد، مما يعني أن مهنة الحياد أصبحت بوضوح جزءا من لعبة الانقسام، وعاملا سلبيا في بناء الأمة، واختفى صوت السلطة الرابعة الذي يهتم بمصلحة الأمة قبل أن يكون جزءا من أي جدل سياسي. لقد استخدمت الشبكات الاجتماعية في تعبئة ضفتي الشارع المصري بشكل خطير، وساهمت نفس الصفحات التي صنعت الثورة، في صناعة المعركة الجديدة وتأجيجها، وكان الرد من الصفحات التي تؤيد الرئيس بنفس اللامبالاة بمستقبل مصر على حساب إثبات وجهة نظر، وكانت النتيجة صورة مأساوية يوم الجمعة والسبت الماضي. لم يحصل سابقا في أي دولة أن استخدمت الشبكات الاجتماعية بهذا الحجم لتحقيق هذا الأثر السياسي السلبي. مصر تصنع الحالات الخاصة دائماً، ولكنها اليوم حالة مرعبة، لأنه كما انفجر الاحتقان الطائفي في دول عربية أخرى مثل العراق، فإن الاحتقان السياسي يمكن أن ينفجر في مصر في أي لحظة لتدخل في نفق لا يعرف أحد متى ستخرج منه. كيف يمكن لصوت الجماهير الممثل في الشبكات الاجتماعية، الصوت الذي يبحث عن الحرية والعدالة والحقوق، أن يكون هو نفسه الصوت الذي يكره الآخر ويحاربه ويشتمه ويطالب ببذل كل جهد ممكن للقضاء عليه بعيداً عن صوت العقل. بعض المصريين يقولون لك حتى لو كان الدستور جيدا فسأرفضه لأنني أرفض كل شيء يأتي من «الإخوان»، وآخرون يقولون لك سأحارب من أجل الدستور مهما كانت الأخطاء والثغرات لأنني أحارب ضد الأعداء. هذا المنطق السطحي اللاوطني يمكن أن يتسرب في أي يوم إلى أي مجتمع ويسوده بسرعة بسبب القدرة الخرافية للشبكات الاجتماعية في نشر الأفكار وتجييش العواطف، وعلى الباحثين أن يفهموا الظاهرة ويدرسوها ويبحثوا عن كل سبل على المدى القصير والبعيد لمعالجتها. الشبكات الاجتماعية لم تصنع المشكلة، المشكلة صنعتها آليات سياسية ضعيفة، سمحت لمكونات البنية السياسية للدولة أن تنقض بعضها بعضا، فبدلا من أن يساهم استقلال السلطات في قوتها، صار عاملاً في أن تهجم السلطات لينهش بعضها بعضا. اختارت الأمة رئيسا وليس لديها برلمان ولا دستور ولا مؤسسات، وهو خطأ قانوني ضخم، ثم قررت الأمة أن هذا الرئيس يجب أن يبقى ضعيفاً حتى يتم وضع البنية التحتية السياسية، وهذا في رأيي خطأ كبير آخر. هذه التركيبة المختلة صنعت المشكلة، ولكن صوت الشعب السلبي تشكل عبر الشبكات الاجتماعية ضمن أطر صنعتها القنوات الفضائية، لتكتمل كل حلقات تكوين الرأي العام. رسالتي للمصريين وكل من يعنيه شأن مصر: إذا كنت شخصاً تؤمن بالديمقراطية فعليك أن تدعو لمصر بالخروج من الأزمة لأن نجاتها من «الحرب الذاتية» نجاح للديمقراطية في العالم العربي، ولو كنت تبحث عن تطبيق سياسي سريع للإسلام، فعليك بالدعاء نفسه، أما إذا كنت مساهماً فيما يحصل اليوم أيّاً كان رأيك، فأنت تبحث عن الفوضى والاحتقان والفشل لمصر.. ما أقسى أن تحارب الأمة نفسها..