إذا قمَعَكَ الرقيبُ فاسْتَقمِعْ.. وإنْ سمعتَ بثورة عروبيّة فلا تُجعْجعْ.. فليس لك في حمى الأعراب سوى أنْ تخْنع.. إن اتّجَهْتَ نحو الشرق فأمامك مُرشِدُ الثورة، وإنْ غرّبْتَ في الحمى استقبلكَ القطْبُ الثوريّ الموازي من المرشدين.. وإنْ جرّبت حظّكَ جنوبا نحو جذر العروبة سيَسْتقْبلكَ هناك إرشادان قاعدةً وحُوْثا.. أما مهجرُ العربِ الأول (الشّمال) فستصْطَفّ لك آياتٌ ومرشدون ومولويّات وكأنّ الحصار قدرك هنا منذ كان الاستعمار يحيطك بدائرة عجيبة الْتَفّتْ ذاتَ زمن حول جزيرة العرب.. اليوم إرشادٌ ومرشدون يرون كلّ من سبقَهم إفساداً ومفسدين.. حتى لو وجدَ بعضُ القومِ اليوم عمرَ الفاروقَ لفسّقُوه، أو انبرى بينهم عليّ بذي الفقار لكسّروه، ولو أعاد قدْسَهمْ صلاحُ الدّين الأيوبيّ لحاكموه.. سمعوا أنّ الإغريقَ أعلنوا ذاتَ يومٍ عن مدينةً فاضلة فاستلُّوا اللفظَ وأسَرُوهُ من دياره وأسموه ديمقراطيّةً وربيعاً عربياً وثورات، وأشرقتْ عليهم شمسُ آيات المرشِدين الفرسِ فأصَرّوا على تعريبها كما استعربَ بعضُ بني ساسانَ ليرْشِدُوا أبناءَ المهاجرين والأنصار.. لا تصدّقوا يوماً ما بأن العقل العربيّ قابلٌ للديمقراطية لأنه عقلٌ لفظيٌّ شِعاراتيّ صوتيميّ. هُمْ أمّةُ بيان لا أمّةُ حياة، لغتُهمْ تنوبُ عن حياتهم، وثوراتهم تهديمٌ لمقدّراتهم، كلما دخلتْ منهم أمّةٌ الحكمَ لعَنَتْ أختها وهدَمَتْ إرثها..هم لا يواصلون البناء بل يبنون ليهدموا. العقلُ العربيّ عقلٌ شاعريّ بحكم «صوتيميّته» وسيبقى شاعراً يتغنّى بكلّ لفظة جديدة عليه، ولا يمارسُ الجديد في السلوك. لمْ نعرفْ ثورةً عربيّةً أوصلتْ بنيها إلى الحرّيّة السياسية والاقتصاديّة والاجتماعية، ولا إلى الأمن على النفس والمال والمستقبل، ومن ذا الذي لا يشعرُ بجبنِ رأس ماله إذا تركه أو استثمره في إحدى دول ربيعنا التي نجحتْ ثوراتها الشكليّة حتى الآن؟ الحرّيّةُ في تركيبة العقل العربيّ ليستْ قابلةً للتخلّصِ من طغيانِ الحاكِمين المستبدّين، لأنّها مبنيّةٌ على أنّ ضابطها هو الاستبداد، وبالتالي فهو ضرورة لهذه العقلية، والنتيجة هي حتميّة استبداد الثورات حتّى لو علمنا بأن الثورة الفرنسية وثورة أمريكا نجحتا، لأن نجاحهما يكمنُ في عدم قربهما من العقلية العربية، وحتى لو نجحت ثوراتنا العربية في إخراج أقدام المستعمِرِ يوما ما، فنجاحها كان في إخراج الأجنبيّ المحتلّ لا نجاحا في أنسنةِ القيم والقوانين وغرس احترام المقدّرات للشعوب. إنّ الديمقراطيات الحقيقية والأديان لا تحتاج زحمة مرشدين ولا تضخماً وزحاما في الدعاة والواعظين، لأنّ التضخّم في أي مجال ليس سوى آفةٌ مرضيّة، إذ كما أن التضخّم الاقتصادي مشكلة، فتضخّم أعدادِ الدّعاةِ والمصلحين كذلك حتى صاروا أكثر من المستهدَفين بالإصلاح، وتضخّمِ الشعارات مفسدةٌ للشّعوبِ وملهاةٌ للمستبدّين وشماّعة للفساد. حيثما اتّجهتم اليوم في عالمنا العربي فسترون بأنّ الثورات ليست سوى تغيير في طبقات المستبدّين لا تغييرا للفساد وأنظمته ولا تأسيساً حقيقياً لمفهوم السلوك الديمقراطي على مستوى المجتمعات. لذا لا نستبعد أن يأتي يوم تكون فيه حقيقة الثورة على أيّ نظام فاسد هي: لا ثورة. فنظام فاسدٌ متشبّعٌ بفساده وثرواته قد لا يبقى فيه نقصٌ يحتاجه سوى محاولة تحقيق العدل ما دامت البنية الأساسية للعقل العربي غير صالحة للمفهوم الديمقراطي. ومن أدلتي على صحة ثورتي على الثورات: ما يحدثُ في أماكنها على حساب حياة الشعوب من صراع يستخدمُ الدينَ والأدلجة غطاءً مكشوفاً صريحا لإرادات مستبدّةٍ بالقرارالمتوحّدِ بلا دستور في ظلّ ثورة أتتْ به ديمقراطيا مماّ لا يفرّقُ بينه وبين غيره في البلاد اللاثورية واللادستورية. وأكادُ أجزم بأن من يتأمّلُ أمر عالمنا العربي بشكلٍ موضوعيّ غير شعاراتي دينياً أو سياسياً سيصابُ بحالةٍ من اليأس والإحباط، ويدركُ أن تلكم الزوابع الثورية ليستْ سوى رقصٍ على شعارات لفظية جوفاء لن تستطيع تغيير الجوهر الاستبدادي المبني على نوعية العقل العربي، وأنّ الحلول لا تكمن في ثورات جرّبَ أنواعها العربُ منذ قرن من الزمن، بل تكمن في دراسة العقلية العربية التي قد تختلف عن غيرها بأن بنيتها الفعلية محتاجة إلى قيادة استبدادية مبنية على نوعها! ولا تعتقدوا بأن بلاد الشام سيصلحُ أمرها بمجردِ زوال أسدها، كما لم تصلح العراق بزوال صدامها، ولم تصلح مصر بنجاح ثورتها الجديدة، ولن تستقيم أمور شمال إفريقيا بتغيير حكامها، ولا اليمن ستعودُ سعيدة بتغيير أشخاص قياداتها. وهذا دليل آخر على أنّ ثورات الربيع ليستْ سوى حلقة في سلسلة الشعارات التي تدور في العالم العربي منذُ ثورات الخلافة بعضها على بعض، مروراً بثورات الانقلابات، وصولاً إلى ثورات الربيع، ودليل على أنّ مشكلاتنا جميعاً على المستويات السياسية والاجتماعية مبنيّة على أزمة نوع العقل العربي المبني على اللغة وشكلية الشعار اللفظي لا على الحياة السلوكية.. ولهذا أقول لمحبّي الديمقراطية في عالمنا العربي: اللهمّ لا ديمقراطية!