الهالةُ التي أُحيطَت بها روايةُ (الجريمة والعقاب) للكاتبِ الروسي الشهير (دستويفسكي) هي أكبرُ محرضٍ على قراءتها، ومن بابِ الفضولِ ذهبت إلى أقرب مكتبةٍ لشرائها، فما إن شرعتُ في قراءةِ الروايةِ حتى وجدتني هائماً في عالمٍ آخر، لا مكانَ فيه للمثالياتِ الزائفة، يتماوجُ فيه الإنسانُ بين رضوخٍ للرغباتِ وردعٍ للشهوات، ويكون الصراعُ فيه مضطرماً بين الخيرِ والشر، بين فئةٍ مطحونةٍ من البشر يمثلُها الفقراء وفئةٍ طاحنةٍ يمثلُها الأغنياء، أحداثُ الروايةِ مثيرةٌ بدرجةٍ كبيرة، وكلُ مرحلةٍ فيها تغريك بما بعدها، ومع أنَّ الترجمةَ التي كانت بين يديَّ -على ما يبدو- لم تكن مكتوبةً بلغةٍ موائمةٍ لما عُرف عن الأدبِ الروسي من الجمع بين الأسلوبِ الأدبِي الرفيعِ والفكرةِ العميقة، غير أنّ البعدَ الفكري لأحداثِ الروايةِ وتشويقها ومقدرة الكاتبِ على تصويرِ الضغوطِ النفسيةِ والأخلاقيةِ والاجتماعيةِ التي يقعُ الإنسانُ تحت وطأتها كانت كفيلةً بأن تنقلَك إلى مدينةِ بطرسبرج (ليننجراد حالياً)، حيث تدورُ أحداثُ الرواية، وتجعلُك تتجولُ في شوارعِها المظلمةِ وأزقتِها الضيقة ونفاياتهِا المتراكمة، بل تنقلُك إلى غرفةٍ مظلمةٍ ضيقةٍ قذرةٍ لا تصلُ إليها أشعة الشمس حيث يعيشُ بطلُ الروايةِ (راسكولينوف)، والروايةُ تُصورُ حياةَ الناسِ البسطاء على أنهم فئةٌ مسحوقةٌ منسيةٌ من البشر، يرزحون تحت عذاباتِ الفقر والجوعِ والحرمان، تُستغَل هذه الفئةُ من فئةٍ أخرى يمثلها المترفون الذين يعتقدون أن ثروتَهم تسمحُ لهم باسترقاق البشر، تأتي في مقدمةِ هذه الفئةِ عجوزٌ مرابيةٌ تمتصُّ دماءَ الفقراءِ ظانةً أن المالَ وحده يسوِّغ لها الإساءةَ إلى البسطاء، وقد حاولَ دستويفسكي في هذه الروايةِ أن يُحدد بدقةٍ ما يؤثر في الإنسانِ فيدفعه إلى أن يصبحَ مجرماً، مبيناً أنَّ دوافعَ الجريمِة ليست بالضرورة أن تكونَ شخصيةً هدفها الانتقام، بل قد تخفي وراءها هدفاً نبيلاً، ف(راسكولينوف) قتل تلكَ العجوزَ الشريرةَ لتخليصِ المجتمعِ من انتهازيتها، وليس في شخصيتِه ما يدعوك إلى أن تعدّه مجرماً، بل قد تجد نفسَك متعاطفاً معه في بعضِ أجزاءِ الروايةِ إلى درجةِ الحب! حتى أنه في الليلةِ التي خرج فيها لارتكابِ جريمتِه كان خائفاً من مواجهةِ الدائنين ومطالبتهم إياه بالسدادِ. كما أن (راسكولينوف) بعد إقدامِه على ارتكابِ جريمتِه صار أكثرَ شعوراً بالغربةِ والوحدةِ والانطوائية والنفرةِ من الناس، إلى حدِّ التفكيرِ في الانتحارِ وهجران الجامعة، ومع أن (دستويفسكي) قدمَ بطلَ روايتِه على أنه ضحيةٌ لظروفٍ قاهرةٍ دفعته لارتكابِ جريمتِه، إلا أنه من الطبيعي أن يُظهِرَ المحققين بملامح صارمة لا يتعاطفون مع الجاني ولا يلتقون به في أماكن خاصة بغضِ النظرِ عن دوافع جريمته وسلوك المجني عليه. لكن… ما مناسبةُ الحديثِ عن هذه الرواية تحديداً؟ بصراحة أُثير النقاشُ حولها ذات مساء، فلم أتذكر بالضبط كيف توصلَ المحققون إلى اكتشافِ (راسكولينوف)، وقد حاولَ أحدُ الجالسين أن يقدِّم وجهةَ نظرٍ مغايرة لما طرحَه دستويفسكي في روايتِه، إذ يعتقدُ أنَّ الشعورَ بالندمِ ليس صفةً ملازمة لجميعِ المذنبين، بدليلِ أنَّ أحدَ كتابِ العدلِ المتهمين بقضيةِ إعادةِ البيعِ للمتوفين («الشرق» عدد 155) مازال على رأسِ العملِ ويتعاملُ مع الناسِ بشكل طبيعي، ويبدو أنه قد فات على هذا الصديق أنَّ هناك فرقاً بين أن يكونَ الشخصُ متهماً أو مجرماً، فليس معنى كونه طرفاً في قضية ما أنه ضالعٌ فيها بشكلٍ مؤكد، لكنَّ هذا الصديقَ يتساءلُ عن مصيرِ المواطنِ الآخرِ، معتبراً إياه ضحية لعمليةِ فسادٍ واضحةٍ تثبتُها مخاطباتٌ رسميةٌ بين شرطةِ محافظةِ حفرِ الباطن وكتابةِ العدل، ولا يدري فيما إذا كانت مطالبةُ المواطنِ هيئةِ مكافحةِ الفسادِ بأن تتدخلَ في الموضوعِ قد انتهت إلى شيء، خصوصاً أن القضيةَ ليست بغموضِ جريمةِ راسكولينوف، قلت: وما يدريك، لعلَّ التحقيقات أثبتت براءةَ الرجل، ثم إنه قد لا يكون من مصلحةِ التحقيقات أن يتمَّ الحديثُ عن القضيةِ في وسائلِ الإعلام، أو ربما انتهت إلى إدانةِ شخصٍ آخر، قال: إذا كان الرجلُ بريئاً فلماذا لا يُرَد إليه اعتبارُه ولو بخبرٍ صغيرٍ يوضَع في نفسِ الصفحة، وحتى لو كانت التحقيقاتُ مستمرةً فلماذا لم يتم إيقافُ المتهم عن العملِ، أما إذا كان المدان شخصاً آخر فلماذا لا يتم التشهيرُ به؟! المهم أن لا تتكرر قصةُ القاضي المسحور («عكاظ» عدد 3416).