مما يظهر جلياً أن أزمة العراق لا تخص العراق منفرداً، وأن ظلالها وتأثيرها وأطماعها تمتد إلى معظم مناطق الشرق الأوسط، ذلك الشرق الملتهب، منذ الأزل، فهل الرؤية واضحة للعراقيين، ولبقية أطراف اللعبة، بعد انسحاب القوات الأمريكية؟. فالدول السنّية تخشى من تحوّل العراق بكامله إلى دولة صفوية تحت الوصاية الإيرانية، مما سيهدِّد استقرار الدول والأنظمة. والحكومة العراقية الجديدة حائرة في مشيتها بعد الانسحاب، أمشية غراب أم حمامة؟. ونظام صدام الاستبدادي، ورغم مساوئه على أهل العراق، إلا أنه كان ولسنوات طويلة حائط صدّ أمام المدّ الصفوي الإيراني، حيث ساد بعد الحرب الإيرانية العراقية توازنٌ في القوى بين الدولتين، واختل مجدداً بزوال صدام. وكان المتأمل أن تؤدي الديمقراطية الجديدة، إلى اتحاد وتلاحم بين فئات الشعب العراقي، غير أن التدخلات الخارجية المتعددة كانت فاعلة في إفساد كل روابط المواطنة، مما أدى لهروب ملايين من العراقيين، لدول الحدود، السعودية، والأردن، وسورية. وكأن الإطاحة بصدام قد أعطت الضوء الأخضر للإيرانيين بالانتشار في العالم العربي، فبدءوا يتغلغلون في العراق ولبنان واليمن ودول الخليج وسورية، وغيرها. وتعالت نبرة الثقة، فقامت إيران بتحدِّي العالم بأسره، واستئناف تخصيب اليورانيوم، على الرغم من فرض سلسلة من العقوبات عليها. ولو نظرنا لواقع ما حدث في مناطق التأثير الشرق أوسطية، لوجدنا أن إسرائيل تستعرض، وتحاول إظهار القوة، وبأنها لن تتأثر بما يحدث. ووجدت مصر زيادة على حرج علاقتها الخارجية، تهديداً إسلامياً داخلياً مزدوجاً.ووجدت الأردن نفسها أمام تدفّق هائل للاجئين العراقيين، وهو ما أثّر على التوازن الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي للمملكة الصغيرة، بالإضافة لتغلغل القاعدة في المجتمع الأردني، ما أجبر الحكومة على لعب دور الحيادية مع إيران من جهة، ومع تركيا من جهة أخرى. أما سورية، فقد وجدت نفسها مهددة باللاجئين وبالقوات الأمريكية على حدودها، وبأنّ الولاياتالمتحدة مستمرة بإسقاط الطغاة في الشرق الأوسط، أو على الأقل إلزامهم بإجراء إصلاحات ديمقراطية، وأيّ إصلاح ديمقراطي كان سيعصف بالحكم العلوي للأبد، لذلك اختاروا مساعدة الإيرانيين على إنهاك الأمريكيين في العراق، ما عزّز من العلاقات الاستراتيجية بين سورية وإيران. وكثرة الضغوط على سورية جعلها تبادر بإنهاء صراعها مع الأتراك، والموافقة على قيام تركيا بدور الوسيط لاستئناف العملية السياسية مع إسرائيل، كما تصالحت مع السعودية، ومع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، بعد خمس سنوات من القطيعة منذ اغتيال والده. وكأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فعادت تركيا بقوة إلى ساحة الشرق الأوسط بعد أكثر من ثمانية عقود من القطيعة. وتمدد التأثير الإيراني ليصل إلى شمال أفريقيا والسودان، وأمريكا الجنوبية بتوطيد العلاقات بين إيران ودول المحور اللاتيني المعادي للولايات المتحدةالأمريكية، وعلى رأسها فنزويلا. وأما الدول الخليجية، فقد جاء الإعلان الأمريكي بالانسحاب مقلقاً لها، إذ كانت تتمنى بقاء أمريكا في العراق حتى تستقرّ الأوضاع، وتُضرب إيران، وإذا نظرنا إلى السعودية فسنجدها من أكثر الدول المتضرِّرة من الانسحاب الأمريكي، فحدودها الشمالية أو الجنوبية طويلة، وتأمينها يحتاج لجهود مضنية. والخوف كل الخوف من تمركز القوات الإيرانية داخل العراق على الحدود السعودية. والتهديد الإيراني يمكن أن يتجلّى في عدّة صور، بدءاً بغزو إحدى إمارات النفط، مروراً بسيطرة إيران على مياه الخليج العربي، وانتهاءً بمهاجمة المنشآت النفطية القريبة من إيران. وتدرك الدول الخليجية أنّ الولاياتالمتحدة لن تتخلّى عنها تماماً، لكنها أيضاً قد تتردد كثيراً في التدخل، بعد تجربتها المريرة في العراق. وهذا ما جعل تركيا حائط الصدّ الجديد أمام النفوذ الإيراني، فالجيش التركي عضو في حلف (ناتو)، وربّما يكون أقوى جيش في المنطقة، ولا يمكن إغفال المصالح التركية في إنهاء الإرهاب الكردي في بلادهم، ومنع التوسّع الإيراني باتجاه تركيا وسورية ولبنان، كما أن المناطق الكردية تحتوي على مخزون النفط الرئيس للعراق. من هنا يتضح مدى حرج المواقف الحالية للدول العربية المعنية، والخليجية على وجه الخصوص، من جراء سحب البساط من تحت أقدامهم، حتى ولو لم يوله الإعلام ما يستحقه من اهتمام، وتتضح صعوبة الحصول على بساط سحري بديل. كما يتضح حرج الحالة العراقية المتعسرة، داخلياً وخارجياً، والتي كانت ولا تزال كبش الفداء لما حصل، وما يحصل من حراك سياسي عالمي. الكل يضع يده على قلبه، والبعض نظرته وقتية، والبعض ينظر للبعيد، ولا عزاء للمتخاذلين.