تعارفت البشرية على جملة من الصفات الحميدة والمناقب الإنسانية الرفيعة مما أصبح يندرج تحت عنوان كبير يسمى «مكارم الأخلاق» وجاء نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) فأكمل عقد هذه المكارم وأضاف إليها أبعاداً جديدة ومعاني سامية بحيث أصبحت هذه المنظومة الأخلاقية منهجاً يحفظ للمجمتع ترابطه وتماسكه.. وأسلوبا لإشاعة روح الألفة والمحبة بين أفراده وسداً منيعاً أمام عوامل التفكك والتآكل التي قد تصيب نسيجه. ومن جملة هذه المكارم تبادل الهدايا «تهادوا تحابوا». ومما تعارف عليه المسلمون «أن الهدية لا تهدى ولا ترد»، فتقديم الهدية سنة نبوية كريمة، مطالبون جميعاً بها.. تذكرت هذا وأنا أراقب ملامح الألم جلياً على قسمات وجه الشيخ الوقور.. لمست أسى في عينيه.. وشعرت بالتوتر يطغى على جميع حواسه.. أي خطب جلل ألم به حتى يتغير ذلك الوجه الباسم إلى ملامح يغلب عليها الحزن العميق؟! أصررت على معرفة ما ألم به.. وبعد جهد وإلحاح كبير مد يده إلى ظرف بجانبه وأخرج صورة خطاب موجه من شيخنا إلى أحد المسؤولين، موضوعه إهداء نسخة من موسوعة تاريخية لأحد المشروعات المهمة في الوطن حيث قام شيخنا بالإشراف على إعدادها، وتم طبع الموسوعة برعاية الجهة المنفذة وتم إهداؤها للمسؤول بتوقيع معد الموسوعة. قرأت التعليق على خطاب الإهداء المعاد من قبل ذلك المسؤول والموجه إلى صاحب الجهة المنفذة للمشروع وطباعة الموسوعة، ورأيت دائرة حول اسم وتوقيع شيخنا وقد علق هذا المسؤول تحتها بكلمة وعلامة استفسار (من هذا؟!) وأضيفت عبارة (كان الأحرى توقيع ذلك منكم) وذلك احتجاجاً على توقيع الإهداء الموجه إليه من شيخنا بدلاً من الجهة الراعية. دارت السماء برأسي.. وأنا أقرأ هذه الترهات.. وأحسست بأن الدنيا قد أظلمت في عيني والدماء تغلي في عروقي.. وبركان من الغضب، وأحاسيس لا يمكن وصفها.. طغت على كل حواسي، فكيف بشعور الشخص المعني بهذا؟! هل بلغ الاستخفاف والازدراء وانتقاص قيم الفضلاء من الناس إلى هذا المستوى المتدني؟.. وهل بلغت ثقافة الأحقاد والكراهية إلى مرحلة باتت تطل فيه بوجهها القبيح من خلال مثل هذه التعليقات؟ إن من عدته نكرة أيها المسؤول.. هو: شيخ وقور يبلغ من العمر 80 عاماً، مسؤول كبير تقلد مناصب رفيعة بالدولة، وخدم البلاد بكل تفانٍ وإخلاص وأمانة شهد له الجميع بها. رجل مجتمع مرموق من الطراز الأول ومعروف لكثير، يحظى باحترام كل من تعامل معه، وأبناؤه سفراء وأطباء في مواقع حساسة ومميزة بالدولة. أصدر عديداً من الكتب والوثائق الأدبية التي لاقت استحسان الوسط الثقافي، وله مشاركات أدبية ثرية في معظم الصحف المحلية. هذا جزء بسيط لعله يجيب أيها المسؤول عن سؤالك: من هذا؟! ولكن الأهم من كل ذلك.. أنه إنسان.. له كرامة قبل كل شيء.. له مكانته واحترامه وهو معروف لدى الجميع.. سيرته العطرة تحظى باحترام كل من عرفه، وهو ليس من أولئك الذين تعودوا على أسلوب الخنوع والنفاق للوصول إلى مبتغاهم. إنسان.. يرفض الإهانة والتهميش.. يملك من الحرية والشجاعة ما يكفي للمواجهة، كما يتحلى بالعفو والصفح لمن يسيء إليه.. وأحسبه قد صفح.. هل تصرف ذلك المسؤول ينم عن جنون العظمة أم هو تعبير عن روح الغطرسة والخيلاء أم هو محاولة تهميش وازدراء للآخرين؟ لماذا لا نتأسى بسيرة سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أعمالنا وهو من وصفه الله بأنه على خلق عظيم. بل وعلى الرغم من حسن خلقه صلوات الله عليه وسلامه كان يدعو الله بأن يحسن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق. ورحم الله شاعرنا أحمد شوقي حينما قال: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا ويحضرني في هذا المقام قصيدة الفرزدق حين رأى علي (زين العابدين) بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في مكةالمكرمة والوفود تتسابق إليه وبين يديه متجاهلة الأمير الأموي هشام بن عبدالملك والذي استنكر ذلك وسأل (من هذا؟) فرد عليه الفرزدق بقصيدته المشهورة ومطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم وليس قولك: من هذا؟ بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم لا تحزن أيها الشيخ الكريم.. وتوكل على خالقك الذي يعلم ما في داخلك وطب نفسا بحب وتقدير وإجلال كل من عرفك أو تعامل معك فتلك والله هي الأرصدة الحقيقية التي «أكرمك الله بها وهي بعض ما يزين تاريخك من أوسمة مجد وأكاليل فخار».