د. عبدالله القفاري أكد الباحث والكاتب الصحافي الدكتور عبدالله القفاري أن المفكر عبدالله القصيمي لم يكن يحمل مشروعاً سياسياً، أو رؤية يبشر بها ويدعو لها، فقد كان معولاً نقدياً لقضايا كانت تشغل الساحة السياسية العربية في المراحل التي كتب فيها مؤلفاته، ونشر مقالاته. وقال القفاري، خلال لقاء حول الفكر السياسي لعبدالله القصيمي، أقيم في أحدية الدكتور راشد المبارك في الرياض، مساء أمس الأول، إن «القصيمي شخصية سبقت عصرها، وظاهرة لن تنجبها الجزيرة العربية، فهو شخصية إنسانية من الدرجة الأولى. أنا تتبعت تاريخ الرجل، وكان في منتهى الرقة والعطف. كان يتطلع لأن تكون هناك حياة فضلى للإنسان». وأضاف أن القصيمي لم يقبل بيع مواقفه، فقد جاءت مجموعة من حزب البعث لتغريه بالذهاب إلى دمشق خلال فترة وجوده في لبنان، إلا أنه رفض. كما أن سبب إخراجه من مصر عام 1954 كان سياسياً، وكان خلفه الإمام اليمني أحمد بن يحيى حميد الدين، الذي اتهم القصيمي «بإفساد» الطلبة اليمنيين، علماً أنه لم يكن له دور في ثورة اليمن. مادي.. ملحد ونفى القفاري وجود أدلة واضحة وكافية على عدم إيمانه، «أنا لا أشك بأنه من أنصار المذهب المادي، لكنني لا أجزم بأنه ملحد»، مستشهداً بما كتبه عام 1963م، حين كان في الطور الثالث من حياته: «إيماني بالله والأنبياء والأديان ليس موضوع خلاف بيني وبين نفسي، أو بيني وبين تفكيري. ولا ينبغي أن يكون موضوع خلاف بيني وبين قرائي. ولو أردت من نفسي وعقلي أن يشكا لما استطاعا، ولو أرادا مني أن أشك لما استطعت. ولو أني نفيت إيماني لما صدقت أقوالي. فشعوري أقوى من كل أفعالي. إن الحقائق الكبرى لا تسقطها الألفاظ، كذلك الإيمان بالله والأنبياء والأديان». وأشار القفاري إلى أن عباس محمود العقاد كتب مقالاً في مجلة «الرسالة» عن كتاب القصيمي «هذه هي الأغلال»، قال فيه «أتعجب من الأزهر الذي مضى عليه ألف سنة ولم ينجب شخصاً يكتب مثل ما كتب القصيمي». كما كتب إسماعيل مظهر في «المقتطف»: «إذا كان جناحا العالم الإسلامي هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فإن قلبه هو عبدالله القصيمي». وذكر أن القصيمي لم يحمل ميولاً لأية أيديولوجيا سياسية يراها النموذج الذي يطمئن له، إلا أنه كان أقرب للفكر السياسي الغربي الليبرالي الديمقراطي. فهو يرى الإنسان القيمة الأولى، والفردية مهماز حراكه وإنجازه، وذاتيته مصدر تقدمه ونشاطه. كما أنه يعلي من شأن الحرية بكل أبعادها. رفض القمع وأردف أن القصيمي حالة رفض لسلطة الزعامة الفردية التي تمارس القمع وتزوير ذاكرة الجماهير، لذا كان نفوره شديداً من كارثة وحدة عربية في ظل زعامات استبدادية، ونظم شمولية تحاصر الحريات، وتقضي على الفردية، وتوسع مدارات البؤس والقهر. وأوضح أن القصيمي يُعد ثائراً على كل الثورات، وعلى كل الثوار العرب الذين جاءوا يحكمون بقوة السلاح، وعلى كل ثورة حدثت في التاريخ، وعلى كل ثائر أفرزه التاريخ، مشيراً إلى قوله: «إن مجتمع الثورة هو مجتمع الخوف والهوان، إنه مجتمع الركوع، والغوغاء، والبذاءة. إنه مجتمع الكآبة، والعدوان. إنه مجتمع المشانق والأحزان». ولفت القفاري إلى أن القصيمي هو ابن مرحلته، وخبر الانقلابات العسكرية التي سميت ثورات. وعاش مرحلتين طويلتين في حياته بين قبل وبعد. وأدرك في وقت مبكر عقم هذه الانقلابات، والكوارث المحتمة التي ستجلبها على البلدان العربية. وأفاد أن ثورة القصيمي على الثوار لا تعني أنه ضد التقدم والتطور، مشيراً إلى أنه لا يثور على الثورة إلا انتصاراً للحضارة، ورغبة في الإبقاء على منجزاتها ومزاياها في أي مجتمع تغزوه. كما أن موقفه من الثورة والثوار لا يعني أنه من دعاة المحافظة على الأنظمة. الوحدة العربية وفيما يتعلق بموقف القصيمي من الوحدة العربية، أوضح القفاري أنه اتخذ موقفاً سلبياً من دعوتها، في أوج رواجها، وفي خضم الانفعال لها ومعها في المنطقة العربية، مع إدراكه لحساسية هذه المسألة، ومخاطر الهجوم على فكرة القومية العربية ومشروعها الوحدوي، لافتاً إلى إن القصيمي كان يخشى من قيام الدولة العربية الواحدة الكبيرة من عودة «الاستبداد القديم بوسائل حديثة. ويهاجم بسخرية لاذعة الاستبداد الحديث لأنظمة الحكم العربية، ويرسم صورة معبرة للعسكر الهمجيين الذين تمارس هذه الأنظمة سلطاتها بواسطتهم». وقال إن هجوم القصيمي على العروبة لم يكن موجهاً للعروبة بحد ذاتها، بل لتوظيفها في مشروع ديكتاتوري قمعي استخدم الدعاية على أوسع نطاق في تلك المرحلة، مضيفاً أن القصيمي يرى أن النفط هو الذي يغطي ويعري، في آن واحد، انعدام المواهب البشرية لدى العرب، وجميع من يتحدثون عن فضائل العروبة ومزاياها، حيث كتب القصيمي «إن النفط هو الموهبة الوحيدة للعرب، الشيء الوحيد الذي يمكنهم تقديمه للعالم. ومع كل هذا فإن العرب غير قادرين على استغلال ثروتهم النفطية التي يعتزون بها كل الاعتزاز. بل احتاجوا إلى الغرب ليخرجه من رحم الأرض. فالنفط ظل زمناً طويلاً سائلاً لا قيمة له إلى أن جاءت الحضارة الغربية وأعطته هذه القيمة. ولكن النفط، بعد استخراجه، أيضاً، لا يستطيع إبداع حضارة. وبما أنه نفط عربي فهو لا يمدن سوى الصفات السلبية لهذا الشعب». مكالمة هاتفية وقبل ختام اللقاء، أكد الدكتور راشد المبارك أن القصيمي، الذي تربطه به صداقة شخصية، أنه كان من أكثر الناس حباً للإنسان، وثورة من أجله، وتسامحاً مع من يخالفه. وذكر قصة مكالمته الهاتفية مع القصيمي قبل وفاته بفترة قصيرة، وسؤاله له «كيف تعيش وحدك؟»، حيث توفيت زوجته وأصبح ابنه محمد عضو هيئة تدريس في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وابنه الآخر ليس معه، وابنته متزوجة، «فقال أنا لا أعيش وحدي، بل أعيش مع نفسي والله والألم»، مؤكداً أنه حاول أن يثنيه عن بعض قناعاته، إلا أنه كان صادقاً مع نفسه.