خَفّفِ الوطءَ، فإنَّ أَديمَ هذا: «الإسفلت» يَنبضُ بالحياةِ، وامشِ عليه هَونَاً فإنّ له شَرايين تكتظُّ بعَرقِ مَن أرهقَهُ صَعَودَا، وستظفرُ على قارعتِه يومئذ بأكوامٍ مِن: «الجاهلينَ» فقل لهم سَلامَا، ثُمّ امضي في سبيلِكَ وتذكّر أنّ للشارعِ رائحةً تَتَمطّى على المُنهَكِ مِن أجسادِنا إذ تحفرُ فينا أخاديدَ مَن العطرِ، ولكأنّ ما يعبقُ من رائحتِهِ هو: «الوشمُ» الذي يتَدبّقُ لَزِجَاً على عُرِيّنَا لنبقَى موشومينَ به انتماءً، في الأثناءِ التي عَجِزَت فيه رائحَةُ بيوتِنَا أنْ تَعلَقَ بِنا!. خَفّف إذن وقعَ أقدامكَ وتَرفّق، إنّ هذا الشارعَ جزءٌ ليسَ يُمكِنهُ بأيّ قوةٍ أنْ يقبلَ الانفصالَ عن: «حياتِكَ»، بل لَربّمَا أني أنطقُ بالحقيقةِ ولا أُجافِيهَا إذ أقولُ: إنّما الشارعُ قد كانَ وسيبقى هو أكثرُ شيءٍ في حياتِكَ قد ضَجَّ وسيضجُّ بالحركةِ والحميمِيَّةِ مَعَاً. أوليسَ هو مَن كانَ بك حفيّاً بحُسبانِهِ ذلكَ: «الفضاءُ» الذي ما كانَ منهُ ولا مرّةً أنْ ضاقَ بكَ أو تَبَرّمَ، سواءً أتيتَهُ رَاجِلاً.. أو مُمتطيَاً أيَّ ضامرٍ يمشي على أربعٍ أو اثنتين.. أو راكباً عربةً أو درّاجةً أو.. أو.. لا تَخذل الشارعَ وتجَاسر، وأخبرِ: «الناسَ» كلَّ النّاسِ.. إيهٍ أخبرهم عَمن كانَ: يَمتصُّ غضبَكَ، ويُلملمُ شَعثَ بعثرةِ «نفسيّتَك» المأزومةِ إبّانهَا، ويؤويكَ حينَ تضيقُ عليكَ دُنيا بيتكَ بما رَحُبَت، ثم لا يلبث أنْ يجبُرَ عظيمَ انكساراتِكَ إذ يعيدُ كلَّ ما تشظّى منك إلى مكانِهِ!، ولئن لَفَظتكَ إذ ذاكَ كلُّ الأمكنةِ بصمتِ جُدرانِها الباردةِ إلى الخارجِ من كلّ شيءٍ، فإنّهُ ما مِن شيءٍ تأهلَ حينذاكَ لِأَن يحتضِنُكَ ويمنحُكَ الدفءَ غير هذا: الشارعُ الذي لم تُقدّره حقّ قدرهِ. وعليه.. أفلَم يجدكَ مخنوقاً فكانَ لكَ رئةً و:»أكسوجيناً» تتَنفّسُ الحياةَ خلاله؟!. ووجدكَ مطروداً فآواكَ.. ووجدكَ دونَ عنوان فكان لك: «هويّةً»؟! ألم يجدكَ تائهَاً فبَوصَلَ وِجهتَكَ؟! لا تُكابر -يا صاحبي- فأنتَ مَن كان للشارعِ ابناً.. وكانَ له رفيقَاً.. وكانَ لهُ مُنادِمَاً وخليلاً.. أنتَ تَنسى كلّ شيءٍ مِن شأنهِ أنْ يفطّنَكَ من تكون!، أنتَ سُرعانَ ما تشيخُ..، أنتَ تهرمُ، أنتَ تضمُرُ ثم لا تلبث أنْ تَتَلاشَى!. بينَما الشارعُ يملكُ الذاكرةَ ليسَ ينسى.. هو مَعنيُّ بحفظِ كلِّ خُطواتِك، هو يكبرُ غير أنّ لهُ روحَاً لا تَشيخُ، لا تفتأ تذكرّه حتى تَفنَى، فهو الذي طَفِقَ يَتناسلُ ويتمَدّدُ ويتَجدّدُ. هل عرفتَ الآن أنَّ الشارعَ: محاربٌ ومسالمُ مغامرٌ ومُراغمٌ فضاءٌ للبحث عن الهويّةِ جغرافيّةٌ ترفضُ الأطفالَ إلا بصحبةِ أهاليهم خزينةٌ ندخرُ فيها الاقتصاد كلّهبيئةٌ جاذبةٌ للأثرياء وطاردةٌ للفقراءِ بخلاف ما يُشاع عنه ظلماً وعدوانا. وإذن.. فأيُّكما مَن كانَ على الحقيقةِ: ينبضُ بالحياةِ أنتَ أم هُو؟!. أنتَ -فيما أعرفُ- لا تحملُ غيرَ اسمٍ واحدٍ باهتٍ إذ ما أخبرُ أنّ ثمةَ مِن أحدٍ كانَ يكترثُ لك ولا لاسمكَ حتى تنفق: «ميتاً» وأنتَ كذلك! واسألِ الشارعَ كم من الأسماءِ قد كانَ يحملُ؟! لما أن كانَ طفلاً حافي القدمين من غيرِ أرصفةٍ إذ كانَ الغبار حينها يغشى يديه حتى مرفقيه، قد عرفناهُ وقتَهَا باسمٍ يشبهُنَا حيثُ اجتمعت فيه كلُّ الحروفِ المنتميةِ لعائلةِ أبجديةِ غبارِ الأزقةِ من هجائيّتنا، وكانَ اسماً يتفقُ مع مقاساتِ طولِ قامتِه ومواصفاتِ عرضِ منكبيهِ، ثم ما إنْ غدا شاباً حتى باتَ يحملُ اسماً أكثرَ سُموّا ليس فيهِ شيءٌ من بقايا غُبارنا، وهكذا ترحّلَ من اسمٍ لآخر حتى بلغ الستينَ وهي أعمارُ: «أسفلتنا» فتقلّدَ اسماً كانَ ظاهرَهُ الهيبةُ وباطنَهُ الوقارُ. لا تلوموني في هواهُ أنا ما عشقتُ ولن أعشق سواهُ.. يا لحُبّي له كم هو صابرٌ على «لأوائنا» إذ طَالما عاملَنا بحُلمِهِ على الرُّغمِ من فظاظة تعاملنا معَ مشاعرِه المرهفةِ، وذلك أنّه ما مِن عيبٍ هو مِن مخرجاتِنا إلا وأضفناهُ إليه بدمٍ باردٍ. ألسنا نحنُ مَن جعلناهُ: «إعرابياً» مضافاً إليهِ كلّ ما يَعيبُنَا فقلنا: أطفال شوارع تربية شوار بنت شارع لغة شوارع؟ وبما أننَا مُنحازونَ بالمرّةِ للرجلِ -خِلقةً- قَبلنا بشيءٍ من الرضَّا والاغتباطِ وبكثيرٍ من التّثاقفِ التوصيفَ ب:»رجلِ الشارع»! وعلى أي حالٍ فلقد خلعتُ -مرّةً- عنّي رداءَ: «عروبتي» ورحتُ أُنصتُ للشارعِ إذ تبَيّنَ لي أنه يتكلّمُ كلَّ: «اللغات» بينما جهِلنَا مَنطِقَهُ وما العيبُ إلا عطَبٌ في جهازِ السّمعِ لدينا، وذلك أنّي لما أصختُ له سمعي ألفيتُه يُحدثني بالآتي: «تبنت جمعية (مكان للقاء) بمدينة ريو دي جانيرو البرازيلية برنامجا خاصا لمواجهة :ظاهرة أطفال الشارع، ويقوم البرنامج على أساس فكرة محورية وهي أن مشاركة أطفال الشارع في عمل منتج من شأنه أن يمنح الطفل تقديرا لذاته ويشكل حافزا هاما لنمو شخصيته. ويتمثل المشروع في إنشاء ورش لصناعة الأثاث والسجاد والأغطية وأشياء أخرى. وتفتح هذه الورش في وجه أطفال الشارع الذين يرغبون في أن يتم إعدادهم للعمل فيها بمقابل أجر يتيح للطفل أن يعيد تنظيم حياته بشكل جديد. وتوفر هذه الورش للأطفال وجبات غذائية وعلاجات للأسنان. وتستوعب 350 طفلا. وتمول في معظمها من مبيعات منتجات الأطفال بالإضافة إلى بعض المساعدات التي تتلقاها من جهات مختلفة» لم يدعْ لي فرصةً لأتعقّبَ هذه التجربةِ حيثُ بادرني بقوله: يا عرب.. ابحثوا عن الأسبابِ في دواخلِكم فما العيبُ في الشارعِ وما كانَ له أن يكونَ كذلكَ لو كنتم تعقلون، وإنه لأطولُ وأوسعُ من أن تَتخذوا منه مِشجباً تُعلقوا عليه إخفاقاتكم! وما إن هممتُ بأمرِ سوءٍ في سبيلِ إلجامهِ الحُجّةَ: «الجاهزة» بأنّ تلك هي «البرازيل» -وش جاب لجاب- حتى رأيتُ في ملامحهِ برهانَ تغيّظه فأجابني: « تبنى المجلس الوطني لإسعاد الأطفال بالهند -بالهند أعادها مرتين- تبنى هذا المجلس برنامجا لفائدة أطفال الشارع في مدينة بنغالور الهندية. وتتراوح أعمار الأطفال المستهدفين بين5 و14 سنة، وهم في غالبيتهم من الأميين ولا مأوى لهم ويعيشون في الشارع، وقد فروا من منازلهم ولم يحاولوا العودة إليها، وكان هؤلاء الأطفال يجمعون الفضلات من صناديق القمامة ليبيعوها بأثمان زهيدة لسد رمقهم. ويستهدف البرنامج إعداد الأطفال لممارسة أعمال بديلة تدر عليهم دخلا وتخرجهم من الوضعية المزرية التي يوجدون فيها. وقي ذات المركز التابع للمجلس المشار إليه تقدم لهؤلاء الأطفال وجبات غذائية والعلاجات الصحية وبواسطة متخصصين في ميدان العمل الاجتماعي.. وشيئا فشيئا أخذ الأطفال يبدون اهتماما بالأنشطة التي يقدمها المركز ويتخلون عن جمع الفضلات ويقبلون على تتبع حصص في التكوين المهني ومحاربة الأمية.. واستطاع عدد كبير من هؤلاء الأطفال أن يتقن بعض المهن -صناعة الأثاث والألعاب- وأن يضمن من خلال هذه المهن دخلا قارا». ما بقي سوى تذكيركم بأنّ: «للشارع» فيكم رَحماً ومودةً.. فحدثوني عن: «شوارعكم».