يبدو ابن تيمية على معرفة بأطراف من علم الفلك السائد في عصره كما تشهد بذلك آراؤه عن الأهلة في عدد من كتبه، وقد جمع إبراهيم بن عبدالله الحازمي تلك الآراء في كتاب: «رؤية الهلال والحساب الفلكي، أو: الأحكام المتعلقة بالهلال»، الرياض: دار طيبة، 1412ه. وتقوم تلك المعرفة على علم الفلك المتأثر بآراء عالم الفلك اليوناني القديم «بطليموس» في كتابه «المجسِّطي» الذي ترجمه العرب في زمن مبكِّر. وقد وصف ابن تيمية «بطليموس» بأنه «مقدَّم» علماءِ الفلك، واحتج بأقوال الفلكيين المتقدمين عنه الذين «لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفا واحدا» (الحازمي، ص108)، واستشهد به في موضع آخر (ص130). كما ذكر بعض «الحسّابين»، مثل كوشيار الديلمي، وحسّابين آخرين لم يسمِّهم. ويستشهد ببعض «حذّاقهم: مثل أبي علي المروذي القطان وغيره» ضد آراء بعض «الحسابين» (ص 108). ويبدو أن تصور «بطليموس» للمنظومة الكونية قد دخل في الثقافة العربية قبل الإسلام، وهو ما يوحي به أنه صار من المسلَّمات حتى عند الفقهاء المسلمين (ومنهم ابن تيمية نفسه) الذين صاروا يستشهدون به في تفسير القرآن الكريم. ومن شواهد ذلك ما يرويه ابن تيمية من قول «إياس بن معاوية -الإمام المشهور قاضي البصرة (توفي 122ه): السماء على الأرض مثل القبة» (ص122). وما يرويه عن الإمام أبي الحسن أحمد بن منصور بن المنادى من أعيان العلماء ومن الطبقة الثانية من أصحاب أحمد (ت336ه): «لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكُرَة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدَورة الكرة بين قطبين، غير متحركين: أحدهما في ناحية الشمال والآخر في ناحية الجنوب. قال: ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من الشرق تقع قليلاً (ربما كانت العبارة: و»تطلع ليلا») على ترتيب واحد في حركاتها، ومقادير أجزائها إلى أن تتوسط السماء، ثم تنحدر على ذلك الترتيب. كأنها ثابتة في كرة تديرها جميعا دورا واحدا»( ص 122- 123). ويقوم تصور بطليموس على مركزية الأرض ودوران الشمس حولها. وهو ما يصوره قول ابن تيمية، رواية عن ابن المنادى: «قال: فَكُرة الأرض مثبَّتة في وسط كرة السماء كالنقطة في الدائرة. يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء على قدر واحد، فيدل ذلك على بُعد ما بين السماء والأرض من الجهات بقدر واحد، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء» (ص 123). ويدلل على كروية الأرض ودوران الشمس حولها باختلاف طلوع الشمس وغروبها على «نواحي الأرض» (ص 123). وكان لهذا التصور بعض المقتضيات على بعض القضايا العقدية بين الفرق الإسلامية عن بعض صفات الله تعالى. فقد اتَّخذت بعضُ الفرق هذا التصور حجة ضد معتقد أهل السنة والجماعة في صفة العلو لله تعالى. ويدافع ابن تيمية عن هذا المعتقد بتفسير صفة العلو بما يتفق مع ذلك التصور ( ص 124- 128). والسؤال الآن: هل يصحُّ لنا في العصر الحاضر قبول تصور ابن تيمية الذي يقضي بأن الأرض ثابتة في وسط السماء، وهي مركز الكون المنظور، وأن الشمس تدور حولها؟ والجواب بالنفي، حتما. ذلك أنه حتى طلاب التعليم العام الآن يعرفون أن هذا التصور البطليموسي اندثر بعد «ثورة» كوبرنيكوس الذي أثبت أن الأرض ليست مركز الكون، بل كوكب تابع للشمس يدور حولها (توفي كوبرنيكوس في 1543م، بعد 215 سنة من وفاة ابن تيمية). بل أجزم أن علماءنا الأفاضل، أنفسهم، لا يأخذون الآن تصور ابن تيمية للكون المنظور على أنه صحيح أو ملزم لأنه تصور يخالف المعطيات العلمية الدقيقة المتفق عليها منذ خمسة قرون تقريباً. فإذا كان هذا هو مصير تصور ابن تيمية للكون المنظور، فما مصير معارفه الفلكية الأخرى التي تظهر في كلامه عن الهلال؟ فقد تكلم عن بعض المعارف الفلكية التي وصل إليها علماء الفلك الأقدمون عن طريق ملاحظة سَيْر بعض الأجرام السماوية. وتتماشى بعض تلك المعارف مع ما هو معروف الآن عن سير تلك الأجرام، لكن معرفته بها كانت مرتبطة بتصوره عن المنظومة الفلكية كما هي في تصور بطليموس. فهو يقرٍّر، مثلا، صحة أقوال «الحسابين» عن ظاهرتي الكسوف والخسوف، وظواهر استسرار الهلال وولادته وأطواره خلال الشهر القمري، ويقرر دقة أقوالهم عن الدرجة التي يكون عليها الهلال في أول الشهر. لكن ذلك كله لم يمنعه من التشدد في النكير على محاولاتهم تحديدَ الدرجة التي يمكن رؤية الهلال عندها. ويتلخص اعتراضه على تلك المحاولات في الأسباب التالية: 1- إن رؤية الهلال المباشرة هي السنة. 2- التيسير على المسلمين. 3- إن أكثر «الحسّابين» الذين يتكلمون عن تحديد الدرجة التي يمكن رؤية الهلال عندها متهمون بالنفاق. 4- إنهم يختلفون في تحديد تلك الدرجة. 5- إن تحديدها غير ممكن لظروف متعددة تؤثر في الترائي. فهل يمكن التمسك بآراء ابن تيمية عن تحديد الدرجة التي يمكن عندها رؤية الهلال لهذه الأسباب الآن، أم أن مصيرها ينبغي أن يكون مشابهاً لمصير تصوره للمنظومة الفلكية؟ وسأعود للسببين الأول والثاني في مقالات تالية. أما الأسباب الثلاثة الأخيرة فإن صحت في زمنه، وكان يمكنه الاحتجاج بها لمنع الاعتماد على الحساب الفلكي في رصد الهلال، فهي لا تصح الآن؛ ذلك أن الذين يقومون بالحساب الفلكي في المملكة الآن علماء فلك سعوديون معرفون بسلامة المعتقد، ودقة التخصص، ولا يختلفون في هذا الأمر البسيط، ويعملون في مراكز علمية تحت إشراف الدولة. وهم يحددون الدرجة التي يمكن أن يرى الهلال عندها بالاعتماد على إحصاءات الرصد الدقيقة التي يقومون بها هم والمتخصصون في العالم كله لوضع حد أدنى يمكن عنده قبول شهادة من يشهد برؤية الهلال (وقد قال ابن تيمية بمثل هذا التحديد). وخلاصة القول إن بعض معارف ابن تيمية الفلكية لا تتفق مع المعرفة العلمية الفلكية المعاصرة. وليس هذا عيباً؛ فذلك هو مصير المعرفة البشرية كلها، إذ إن العلوم تتطور باستمرار وتتغير نتيجة لبحث الإنسان المستمر عن تفسيرات أكثر دقة وعلمية من التفسيرات السابقة. ولا يمكن أن يلام ابن تيمية على معارفه الفلكية تلك؛ أما اللوم فيقع علينا إن استمررنا في الاحتكام إليها بالرغم من عدم ثبوت صحتها منذ زمن بعيد.