ذكرنا أن «الاعتدال السياسي» يعنى: التوجه السياسي الساعي إلى المواءمة بين التمسك بأهم القيم النبيلة السائدة في مجتمعه، والاستفادة من معطيات حركة التحديث العالمية، في شتى المجالات. وهو سلوك يعترف بالآخر وبخياراته،وفي نفس الوقت الذي يتمسك فيه بهويته وحقوقه وقيمه المقبولة. وعندما نتأمل في سير العلاقات الدولية الراهنة، بل والمستقبلية، نجد أن الاعتدال السياسي أصبح «ضرورة» و«مصلحة» بالنسبة لكل الأمم، وبخاصة الأمتين العربية والإسلامية. أما من حيث كونه ضرورة فبسبب طبيعة هذه الأمة وواقعها الحالي. العالم العربي هو قلب وأساس «العالم الإسلامي»، الممتد من السنغال ونيجيريا غرباً ، إلى إندونيسيا شرقاً، ومن تخوم روسيا وأوروبا شمالاً، إلى إفريقيا السوداء والمحيطين الهادي والهندي جنوباً. وهذا العالم كان – وما زال – يعاني تخلفاً في أغلب المجالات … قياساً إلى العالم المتقدم والقوي . كما أن كثيرا من أجزائه تعانى تخبطا فكريا، وترزح تحت صراعات مذهبية لا حصر لها، ولا أول ولا آخر. وقد نتج عن هذا التخلف وذاك الصراع ضعفاً مشهوداً لأغلب العرب والمسلمين أيضاً … قياساً بالعالم المتقدم القوي والمهيمن. ويعود تخلف العرب في معظمه لعدة أسباب… منها: سيادة التيار المتشدد والمتطرف في بعض أجزائه، وخلال مراحل من تاريخه. وكذلك سيادة التسيب والتفريط في الحقوق والهوية في بعض بلدانه، وفي كثير من مراحل التاريخ الحديث والمعاصر. لذلك، يمكن القول: إن نهوض العرب والمسلمين يتطلب ضمن ما يتطلب، وربما أول ما يتطلب نبذهم لكل من التشدد والتطرف والتسيب، وتمسكهم بالاعتدال والوسطية في علاقاتهم وسلوكياتهم المختلفة. فالاعتدال يعني: تهذيب وعقلانية الإنسان – فكراً وسلوكاً. وسيادة الاعتدال السياسي عند العرب والمسلمين من العوامل التي ستقيهم – بإذن الله – عداوة وتربص غير العرب والمسلمين ، وتزيل ما لدى الدول غير العربية والإسلامية من خشية ونفور وأحقاد وضغائن … ناجمة عن التشدد والتطرف في الجانبين العربي والإسلامي. والعرب الآن في موقف ضعيف، ولا يحتمل ما ينجم عن معاداة غيرهم من القوى ، الأقوى والأكثر إمكانات. ولذلك، يمكن القول أن: التشدد العربي كثيرا ما ينتج عنه : الهزيمة والخسران – بالنسبة للعرب . والعكس يمكن أن يكون صحيحاً. كما يجدر التنويه بأن الاعتدال لا يجب أن يعنى التخاذل، أو الاستسلام والتفريط في الحقوق – كما قد يظن البعض . فالتفريط هو أسوأ من الإفراط، خاصة فيما يتعلق بالحقوق المشروعة للعرب والمسلمين وما يخص كرامتهم في أوطانهم . ويكاد المفكرون، بمختلف توجهاتهم، أن يجمعوا بأن : ممالأة الأعداء الثابتين تمثل قمة التفريط والتسيب. ومعروف أن من ضمن ما ينتج عن التفريط تنامي التطرف، كرد فعل على التفريط. ولقد ثبت أن الاعتدال السياسي فيه أيضا مصلحة واضحة… باعتبار أن العرب والمسلمين لا يعيشون وحدهم فوق هذه الكرة الأرضية . وهم يشكلون حوالي 20% من مجموع سكان الأرض. وهؤلاء الذين يشكلون حوالي 80% من مجموع البشر لهم عقائد وتوجهات ومصالح مختلفة. إن المتشددين، سواء من المسلمين أو غيرهم، غالباً ما يقفون موقف الرافض والمزدري لما عداهم. وقد تصل هذه «الكراهية» لدرجة العنف واستخدام السلاح والإرهاب. الأمر الذي يجعلهم مكروهين من قبل أولئك الأغيار. ومن سوء الحظ أن أولئك الأغيار – عن قصد ودون قصد – يتهمون الإسلام كله بالتطرف ورفض الآخر، ويتجاهلون في الغالب كون ذلك التشدد يصدر من فئات محدودة من العرب والمسلمين، وأحيانا كرد فعل على مظالم فادحة من بعض الأغيار. وكل ذلك يؤدي إلى وقوف الأغيار ضد العرب والمسلمين، والعمل على تأليب غير المسلمين على كل المسلمين . وفي هذا إضرار بالمسلمين وتهديد لهم ولدينهم ، وإقحام لهم في صراعات لا أول لها ، ولا آخر، وهم في غنى تام عنها . كما أن التسيب غالباً ما يقود إلى فقدان الهوية، وفقدان احترام الآخرين والتعثر في السير في طريق العزة والكرامة، والقوة والمنعة، وضياع الشخصية المميزة، والمس بالكرامة. أما الاعتدال فإنه غالبا يعني: احترام الآخر واحترام خياراته. ومن ثم استدعاء محبة وقبول وتعاون ذلك الآخر. وذلك يصب -في نهاية الأمر- في مصلحة الإسلام والمسلمين، ويساهم في نهوضهم، عبر انفتاح إسلامي مدروس على الآخر، والتعاون معه فيما يخدم المصالح المشتركة للجميع، ويساهم في دعم ورقى التقدم الحضاري الإنساني.