دُعيت في إحدى المرات إلى إلقاء محاضرة، وقد أعلن عنها لكي تبدأ الساعة الثامنة مساءً. وفعلاً حضرت ولم أجد إلا بعض المنظمين وكانوا يعدون على أصابع اليد. قلت حينها: أرغب أن أبدأ المحاضرة في الوقت المحدد. فقال بعضهم: لا شك أنك تمزح؟ فقلت: إنني جاد وقد رغبت في الالتزام بالوقت الذي أعلن للناس. فقال بعضهم نحن في العادة نعلن الساعة الثامنة لكي نبدأ في الساعة التاسعة!! وقد يأتي المتدرب إلى قاعة التدريب متأخراً وبشكل متكرر ثم يثير سؤالاً استنكارياً: أين الخلل في عدم التزام الإنسان العربي بالوقت؟ المشاهد السابقة صورة كاريكاتيرية لواقعنا الاجتماعي ونكت طريفة لكنها لا تضحك أحداً!! نرغب في الحديث هنا عن (إدارة الوقت)، ونظراً لكثافة ما كتب عن الموضوع سوف نتناوله من زاوية مغايرة، وبلغة نتجاوز فيها تنمية الذات إلى ملامسة البعد الثقافي والحضاري باعتبار أن تهيئة البيئة الاجتماعية والثقافية السليمة تساعد على تطبيق القيم والأقوال. فقد ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أنَّ أحد أبواب جامع دمشق كان يُسمَّى باب الساعات؛ لأن فيه الساعات التي اخترعها فخر الدين الساعاتي وكان يعمل بها كل ساعة تمضي من النهار وعليها عصافير وحية من نحاس وغراب، فإذا تمَّت الساعة خرجت الحية فصفَّرت العصافير وصاح الغراب وسقطت حصاة في الطشت، فيعلم الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة. وفي موضع آخر يذكر ابن كثير أنه في القرن التاسع الميلادي (حوالي سنة 807م) أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد هديةً عجيبةً إلى صديقه شارلمان ملك الفرنجة وكانت الهديةُ عبارةً عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة تتحرك بواسطة قوة مائية وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد معين من الكرات المعدنية بعضها إثْر بعض بعددِ الساعات فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فيُسمع لها رنين موسيقي يُسمَع دويُّه في أنحاء القصر. عندما ننظر إلى تميز الشعوب فيمكننا رصد ظاهرة مهمة؛ وهي أن سلوك الناس هو انعكاس لبيئتهم الفكرية والاجتماعية وليس له علاقة باللغة واللون والموقع الجغرافي. فالفكر نفسه لا يكون عربياً ولا إفرنجياً ولا شرقياً ولا غربياً. فإذا نحن قلنا: تاريخ الفكر اليوناني وتاريخ الفكر العربي وتاريخ الفكر الهندي، فلا يقصد منه النسبة إلى الجنس أو اللون أو العرق أو الدولة؛ وإنما هو للإشارة إلى العوامل الثقافية والاجتماعية (البيئة بلغة علم السلوك) وتاريخ الفكر العربي أكبر دليل: فالفارابي تركي والغزالي فارسي والمعري عربي وابن باجة فرنجي والمهدي بن تومرت هرغني من البربر، وجميعهم قد كتب باللغة العربية. صحيح أنهم اتفقوا في أشياء واختلفوا في أشياء، لكن ذلك الاختلاف والاتفاق لم يكن بسبب العرق أو الجنس، بل بسبب عوامل البيئة والعصر الذي عاشه كل واحد منهم. الإنسان البدائي كان يعتمد على الشمس في شروقها وغروبها لحساب الزمن؛ لأن حياته كانت بسيطة ومقاييسه بسيطة خالية من التعقيدات، وقد استعمل الإنسان الساعة الشمسية منذ 3500 ق.م، وهي عبارة عن عصا مغروسة في الأرض فيتحدد الزمن بها بتحديد ظل العصا تبعاً لحركة الشمس، ثم تم اكتشاف الساعة الرملية، حيث كان انقضاء الرمل من الزجاجة يستغرق ساعة كاملة حتى طورها العرب. لكن البرفيسور (Landes) أستاذ الاقتصاد والتاريخ في جامعة هارفارد يستكثر الثناء والإشارة للعرب في اختراع الساعة بمقال له في مجلة (Deadlus) (بعنوان اختراع الساعة وثروة الأمم)، ويرى أن الساعة اختراع أوروبي وكان حدثاً لم يأتِ ما يشابهه قبل ذلك في جميع العصور الغابرة!! بعيداً عن هذا التحيز اليوم الفكر الإداري بين أيدينا وقواعد (إدارة الوقت) ليس لها علاقة بجنسية معينة ولا بعرق، بل هو نتاج إنساني مشترك، وكل ما نحتاجه هو إبراز قيمنا الرفيعة ونلتزم بها كأفراد بواسطة أفعالنا. الشاعر الثائر دعبل الخزاعي الذي نقل عنه ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان (لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أبحث على من يصلبني عليها فلم أجد من يفعل ذلك)، يقول متهكماً من تناقض الأقوال مع الأفعال: كلام النبيين الهداة كلامنا وأفعال أهل الجاهلية أفعالنا. الدين ينتشر تلقائياً بدون خطب رنانة، وهي سنّة كونية طبيعية، فالماء ينحدر من الجبال إلى السهول المنخفضة وليس العكس. وبريطانيا الجزيرة الصغيرة استعمرت الهند ذات المليار نسمة مثل سنجاب يركب ظهر ديناصور. القيم متجذرة في ثقافتنا الدينية بقوة وجُل عبادتنا مرتبطة بالوقت كالصلاة والزكاة والحج، يقول سبحانه وتعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)، (لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب)، (سارعوا إلى مغفرة من ربكم)، (فاستبقوا الخيرات)، بل إن القرآن دائماً ما يذكرنا بالزمن: (والضحى.. والعصر.. والليل.. والفجر..)، وكذلك توصيات الرسول (صلى الله عليه وسلم): (بادروا بالأعمال سبعاً) (اغتنموا خمساً قبل خمس). نعم ليس المطلوب أن يذهب الناس إلى تورا بورا وقندهار لكي تكفر وتفجر، وليس المطلوب أيضاً استجداء النسر الأمريكي أو الدب الروس أو التنين الصيني! فنحن نعيش زمن الوثنية السياسية. بل يكفي مطالعة سير العظماء والعباقرة في تراثنا العتيد؛ حتى نرصد أن الصفة اللازمة لهم هي الصرامة في التعامل مع الوقت لأن الوقت يعني الحياة. فالبخل انحراف في التملك، والغرور انحراف في الحب، وعدم إدارة الوقت انحراف في جودة الحياة، يقول الإمام الصادق: اجتهدوا أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله وساعة لأمر المعاش وساعة لمعاشرة الإخوان وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرم. وقال المحاسبي: والله وددت لو أن الوقت يُشترى بالمال، لأشتري بأموالي أوقاتاً من الفارغين والغافلين أنفقها في سبيل الله، ويقول ابن عقيل: أنا لا آكل كما تأكلون، بل آتي بالكعك أضعه في الماء ليصير عجيناً فأبتلعه لأوفر الوقت. وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قول الحسن البصري: يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة فإذا مضى يوم مضى بعضك. إن مشروع تقوية جهاز المناعة العربي بحاجة إلى تهيئة بيئة طيبة، التي تخرج نباتها بإذن ربها ثم تعطيك بقدر ما تحرثها وترويها. فعدم احترام الوقت هو عرض للمرض وليس المرض بعينه، ويرتبط بما عبر عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي في حديثه عن القابلية للاستعمار. وفي الوقت نفسه فهو أداة لمطاردة الأخطاء والتفاتة ذكية إلى الداخل للتطهير. فالبيئة الثقافية والاجتماعية هي الحاضنة الأساسية لصناعة اتجاهات إيجابية حتى ينتقل المجتمع من الممانعة السلبية إلى تقديم النموذج؛ فتتحقق بذلك مقولة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم): كونوا شامة بين الأمم.