النبي عليه الصلاة والسلام يخرج من مكة.. ينظر إليها في شوق قبل أن يتركها قائلا: «والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»، عقد من لؤلؤ منظوم وسطور من ألماس ببريق ناصع ينبض بحب الوطن.. الوطن.. نعم .. الوطن، أحلام الشباب وملاعب الصبا. إنك إن خرجت من المكان الذي فيه نشأت وخلفت العش الذي فيه ترعرعت وغدوت إلى ديار لم تعرفها، وشاهدت وجوها لم تألفها وسمعت ألفاظا تتعثر عند سماعها، عندها ستشعر بالشوق إلى وطنك وأرضك. وحب الوطن ليس مجرد كلمات تحكى وقصص تروى. لا وألف لا، إنما هو توافق وانسجام وحشمة ووقار. ترعى أصوله وتحفظ أسراره وتخاف على مقدراته وتنمي منجزاته، عند ذلك فأنت محب لوطنك ولو لم ينطق لسانك بهواه، وإليكم هذه القصة الرمزية: خطب رجل امرأة فأجابه قومها: إن لها من البيوت عشرة، ومن الضياع خمسة، ومن المال عشرين ألفا، ومن الذهب والفضة الشيء الكثير.. فما لك أنت؟ فقال: إن كنتم صادقين فيما قلتم.. ففيم السؤال عن ما لي؟ إن ما عندها يكفيني وإياها ما عشنا ويزيد. فما بالكم إن كانت هذه العروس هي الوطن؟. ومسألة حب الوطن فيها تفصيل.. فإن قصد به الحنين الفطري إليه باعتباره شهد ذكريات الطفولة والشباب فهو مباح ما لم يدفع إلى معصية أو يقعد عن واجب. وإن قصد به العمل على تحريره من أيدي مغتصبيه إن كان محتلا من الكفار فهو واجب. وإن قصد به بر أبناء وطنه باعتبارهم جيرانه وأقاربه فهو مشروع، وأما إن قصد به جعل الوطن محورا للعصبية الجاهلية بحيث يوالي أهل وطنه ولو كانوا كفاراً أو فساقاً.. ويعادي الغرباء عن وطنه ولو كانوا مؤمنين صالحين، فهي عصبية جاهلية.