يأتي في مقدمة مثيري العداء للثقافتين العربية والإسلامية في الغرب الآن مهاجرون من العالمين العربي والإسلامي. ومن أمثلتهم الأخيرة الأمريكي من أصل مصري نقولا باسيلي مخرج فيلم «براءة المسلمين»، وجيزيل ليتمان المصرية اليهودية، التي أشار إليها دوج ساندرز في مقابلته الإذاعية التي عرضتُها في مقال الأسبوع الماضي، وصارت من أهم الكتّاب الذين يؤسسون للعداء ضد العرب والمسلمين في الغرب.وهذان ليسا أول من بدأ هذا النشاط المؤذي ولا الوحيدين؛ فقد سبقهما كثير، ومنهم، مثلا، الروائي الهندي الأصل سلمان رشدي، والكاتبة الصومالية الأصل إيان حرسي التي انخرطت في تيار الأحزاب اليمينية الأوروبية التي تعادي بقوة المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا. ويلحق بهذه الفئة كتّاب وأكاديميون آخرون من أصول عربية أو مسلمة جعلوا التنقص من الثقافة العربية الإسلامية والعداء للتطلعات العربية السياسية وسيلتين للتقرب من الدوائر السياسية المحافظة المعادية للعرب والمسلمين. ومن أشهر هؤلاء الأستاذ الجامعي فؤاد عجمي الذي قلما تخرج كتاباته عن هذا التوجه. ومن أخر ما كتبه مقال نشرته واشنطن بوست (15/9/2012م) بعنوان «لماذا يشعر العالم الإسلامي بالإهانة بسهولة». يعلق فيه على ردود الفعل الطائشة ضد «الفيلم المسيء». وتقوم تعليلات عجمي للتطرف في ردود فعل بعض المسلمين على بعض المقولات الرجعية الجوهرانية المتطرفة عن الشخصية العربية التي عبر عنها بزعمه أن سبب ردود الفعل هذه هو «ما يشعر به العرب من ألم واضطراب ينبعان من شعور عميق دائم بالإهانة في وجه حكم العالم الخارجي عليهم»، إضافة إلى وجود «فارق شاسع بين وضع العرب المعاصرين في العالم اليوم وتاريخ عظمتهم في الماضي»، وكأنهم يعانون من حالة مرضية مستعصية و»يجعل من السهل تفسير الجرح الذي يصيب شعورهم بالفخر». ولا يخفي عجمي قيام هذا التحليل على مقولات المستشرق برنارد لويس الذي صار أشهر منظِّر للتيارات اليمينية الأمريكية التي تعادي العرب والمسلمين في العقود الأخيرة. ومما له دلالة أن يتفق عجمي في هذه المرجعية مع نتينياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، في خطابه الذي ألقاه من على منبر الأممالمتحدة الأسبوع الماضي.ومما يشهد بضحالة هذا التحليل أن المتظاهرين الذين اعتدوا على السفارات الأمريكية كانوا قلة لا يمثلون المسلمين الذين استنكرت أغلبيتهم إساءة الفيلم بأساليب لم تتجاوز المطالبة باحترام المقدسات الإسلامية. وهناك أسباب كثيرة لانتهاج هذه القلة من المهاجرين الإساءة إلى الثقافة التي جاءوا منها. وربما كان أهمها أن هؤلاء مصابون بأعراض مَرَضية نفسية ناشئة عن عدم اندماجهم اندماجاً حقيقياً في المجتمعات التي هاجروا إليها. وهذا ما يجعلهم يعوِّضون عن الارتياح النفسي الذي يأتي من الاندماج الحقيقي بالتظاهر بالاندماج عن طريق انحيازهم إلى أشد المعادين للمهاجرين الجدد والثقافات التي جاءوا منها.وقد أشار عالم الأعصاب الأمريكي ديفيد إيجلمان في كتابه «المتخفي: الأشكال السرية لحياة الدماغ»، 2011م (ترجمة حمزة المزيني، سينشر قريباً)، إلى هذا السبب وعلاقته المحتملة بالمرض النفسي المعروف ب»فصام الشخصية». يقول إيجلمان إن العلاقة بين عدم الاندماج و»فصام الشخصية» يتبين «من اكتشاف أن الضغوط الاجتماعية لكون الشخص مهاجرًا إلى بلدٍ آخر تمثِّل أحد العوامل الجوهرية للإصابة بهذا المرض. فقد كشفتْ بعضُ الدراسات التي أجريتْ في بلدان مختلفة أن الجماعات المهاجرة التي تختلف اختلافًا كبيرًا في الثقافة والمظهر الخارجي عن الجماعات الأصلية في البلد المهاجَر إليه تتعرض لنسبة أعلى من خطر الإصابة بفصام الشخصية. وبكلمات أخرى: يَرتبط المستوى الأكثر انخفاضًا من قبول الأغلبية الاجتماعي للمهاجِر مع احتمالٍ أعلى من إصابته بفصام الشخصية. كما يبدو، بطرق لم تُفهم إلى الآن، إن الرفض الاجتماعي المتكرر يشوِّش على قيام أنظمة الدوبامين (مادة كيميائية تتفاعل في الدماغ لتؤثر في الأحاسيس والسلوك) بوظيفتها المعتادة. لكن لا تَكشف لنا حتى هذه التعميمات كاملَ القصة، فقد وُجد، حتى في داخل أي مجموعة مهاجرة واحدة (الكوريون في أمريكا، مثلاً)، أن الذين يشعرون بشكل أسوأ من غيرهم باختلافاتهم الإثنية عن الأغلبية أكثرُ احتمالاً للإصابة بالذِّهان psychotic . أما الذين يشعرون بالفخر بتراثهم والارتياح له فهم أكثر أمانًا من حيث الصحة العقلية».ويعني هذا أن عداء هذه الفئة القليلة للثقافات التي جاءوا منها إنما هو نتيجة لإحساسهم العميق بعدم الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة. وذلك ما يؤدي بهم إلى المبالغة في التعبير عن الانسلاخ من ثقافتهم الأصلية طلبا للاعتراف بهم ولو كان ذلك بالانغماس في التيارات المتطرفة المعادية للاندماج بكافة أنواعه في مجتمعات الهجرة.وعلى عكس هذه النماذج القلقة غير المندمجة اندماجاً حقيقياً توجد أغلبية ساحقة من العرب والمسلمين مندمجة اندماجاً حقيقياً في مجتمعاتها الجديدة مما يجعلها تشعر بالارتياح ولا تخجل من التعبير عن فخرها بالانتماء إلى ثقافتها الأصلية. وهذا ما يشير إليه الناشط العربي الأمريكي جيمس زغبي بقوله: «الأمريكيون العرب يمثلون جالية مهمة في الولاياتالمتحدة. فهم مندمجون بشكل جيد في كافة مجالات الحياة الأمريكية، ويعملون كأساتذة جامعات، وأطباء، وصناع سيارات، وكمسعفين، ورجال إطفاء، وغير ذلك من المهن» (الاتحاد، 30/9/2012م). ومن أبرز الأمثلة على هؤلاء المندمجين اندماجاً كاملاً إدوارد سعيد الذي قضى معظم حياته العلمية ينافح عن الثقافة العربية الإسلامية والقضايا العربية، واكتسب احتراما قلَّ نظيره في الدوائر العلمية والفكرية والثقافية الغربية حتى صار من أبرز الفاعلين فيها. وكان من علامات افتخاره بانتمائه العربي إعلانه لكرهه لاسمه الإنجليزي. ومن الأمثلة المشهورة الأخرى الروائي اللبناني أمين معلوف الذي كتب عن الثقافة العربية بإيجابية في رواياته وكتبه الفكرية والتاريخية. ولم يمنع ذلك كله من تعيينه عضواً في المجمع العلمي الفرنسي المرموق. ومن الأمثلة الأخيرة على النشاط السياسي الجريء الذي يقوم به العرب المندمجون اندماجاً حقيقياً في الولاياتالمتحدة ما قامت به الكاتبة والروائية الأمريكية المصرية الأصل منى الطحاوي التي تصدت قبل أسبوع بشجاعة لأحد الإعلانات العنصرية ضد العرب والمسلمين التي نشرت على جدران محطات القطارات الأرضية في نيويورك. فقد عبَّرت عن معارضتها لتلك البيانات العنصرية برشها بصباغ يخفيها معلنة بجرأة وفصاحة أنها تمارس حقها في التعبير بوصفها مواطنة أمريكية. وقد عرّضها ذلك للاعتقال، ووجوب الظهور أمام المحكمة، لكنها لم تخف اعتزازها بانتمائها لثقافتها العربية، ولم تختر الانزواء أو تملق التيارات المتطرفة التي ربما توفر لها شهرة وقتية زائلة.