إدراكنا لمفاتيح فهم السياسة الدولية، يفيدنا في فهم هذه الأحداث بدلاً من الوقوع ضحية التحليلات اليومية والتفسير السطحي للأحداث وغياب الرؤية الاستراتيجية تجاهها. مفهوم «التطمين الاستراتيجي» من المفاهيم المهمة التي يمكن أن تساعدنا في فهم السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة. هذا المفهوم أطلقه الرئيس الأمريكي أوباما أثناء زيارته للصين عام 2008، الذي يتلخص في أن المصاعب الاقتصادية للولايات المتحدة يحتم عليها استيعاب المنافسين لها على الساحة الدولية بطريقة تراعي المصالح المشتركة معها مع تقديم تنازلات تكتيكية من أجل أهداف استراتيجية طويلة المدى. هذه الأداة الاستراتيجية تشبه الاستراتيجية التي اعتمدتها بريطانيا العظمى مع الولاياتالمتحدة في أوائل القرن العشرين حيث تحالفت معها بعد أن تأكدت أن الولاياتالمتحدة سوف تكون حليفاً استراتيجياً لبريطانيا مستقبلاً وهو ما حصل فعلاً واستمر إلى اليوم، حيث نجد أن هناك ارتباطاً وثيقاً وسياسة خارجية مشتركة بين البلدين خاصة ما يتعلق بالعالمين العربي والإسلامي. سياسة «التطمين الاستراتيجي» مارسته الولاياتالمتحدة مع روسيا بتفهمها لوراثتها للاتحاد السوفييتي السابق، واحترام مناطق نفوذها، وغض الطرف عن وجود قواتها في جورجيا، وإبداء مرونة أكثر في مفاوضات الحد من الأسلحة النووية وقواعد صواريخ الناتو. لكن يبقى التطبيق الأكبر لهذه الأداة المهمة كان مع الصين كونها تتعامل بطريقة صفرية مع منافسيها ولكونها عملاقاً اقتصاديا منافساً للولايات المتحدة. حيث بدأت الولاياتالمتحدة بإبداء لهجة تصالحية معها، وعدم الوقوف في وجه قوتها الصاعدة، واستعداد أمريكا لتقبل تواجد عسكري صيني في المحيط الهادي، ودمج الصين في لعبة التوازنات السياسية وقواعد المجتمع الدولي، وإدخالها في منظمة التجارة العالمية. كل هذه الحوافز هدفها النهائي منع الصين من التحول إلى دول مهيمنة. وبالطبع هذه الخطوات من الولاياتالمتحدة تجاه الصين أغضبت حلفاءها خاصة الهند واليابان وأوروبا. فكرة «التطمين الاستراتيجي» في جوهرها فكرة فلسفية استوحاها رئيس وزراء بريطانيا هنري كامبل في أوائل القرن العشرين من المؤرخ الكبير أرنولد توينبي حينما تعرض لفكرة «التحدي والاستجابة، ومن تطبيقاتها أن المستقبل يعتمد على مقدار استجابتنا للأحداث وقدرتنا في التعامل الصحيح معها (هذا يدل على أهمية وجود علاقة وثيقة بين المفكرين والفلاسفة من جهة وصانعي القرار السياسي لدمج فكرة الفيلسوف أو المفكر في الاستراتيجيات الكبرى كما يحصل في المجتمعات المتقدمة).