الوطن ارتباط وألفة وتعوّد على المكان، وكثيراً ما يتحول إلى عشق وهيام، خصوصاً حين يرتبط المكان بإنسان يسبي القلب ويمتلك الفؤاد: إن تتهمي فتهامة وطني أو تنجدي يكن الهوى نجد السابقون خلافاً للاحقين، قلّ أن يتساءلوا عن ماذا قدم لهم الوطن! فالحديث مع الوطن حديث امتزاج وتشكل. لم تكن هناك مقايضة في الحب والارتباط مع الأرض. أحدهم يعلنها بصوت عالٍ: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة غير أن عالم اليوم يحتاج إلى طرح مفهوم الحب للأرض وبالتالي للوطن بأسلوب أكثر عصرنة، وأبعد عن الأساليب القديمة بولاءاتها للمناطقية الضيقة أو القبائلية التقليدية. الإنسان، والعربي بشكل خاص، ينتمي للمجموعة، فهو لا يعيش منفرداً، والمفاهيم القبلية والتعاليم الدينية تؤكد على المفهوم الجمعي في الحياة، وتحذر من العزلة. غير أننا نتساءل عن أي جماعة نتحدث، وأي مجموعة نعني، قد يطول التفصيل في ذلك، خصوصاً حين يأخذ الحديث البُعدين الاجتماعي والديني. هذه المقالة تريد التركيز على هذا المفهوم في إطار الوطن. فالوطن يفترض فيه أن يجمع ولا يفرق، وأن يعمل على لمّ الشمل واتحاد الكلمة لمواطنيه. قد تكون ثمة صور مختلفة، لكن أجدني أجزم أنه ليس من بينها البُعد المناطقي أو القبلي. من السهل أن يتجه الطرح إلى البُعد الوطني. غير أن هذا يحتاج إلى تفكيك حالة الارتباط الشديدة، والعمياء عند بعضهم في أحايين قليلة، لبُعدي المنطقة والقبيلة، وعمداً تجاهلت البُعد الطائفي في الحديث عن الوطن! فك الارتباط الوثيق مع هذين البُعدين قد يكون مستحيلاً، فنحن أمام إرث تاريخي عريق. ولذا من الأفضل، وقد يكون الأسهل، البحث عن بدائل تجمّع ذات دوائر صغرى، بحيث تكون قادرة على احتواء المجموعات المتجانسة ذات الاهتمام المعيشي والحياتي الواحد بصرف النظر عن بُعدي المنطقة والقبيلة. غير أن من المهم أن يصحب ذلك مساندة من الدولة، وتوجه رسمي يعمل على تخفيف بعض الأنظمة التي تكرس الولاء للقبيلة! إن الحالة التي تعيشها كثير من الدول تتمثل في التركيز على التحديث المجتمعي من حيث المفهوم الأساس للمجتمع المدني لا من حيث المظاهر المادية. تحقيق المجتمع المدني، وهو أمر لا أحسبه موضع خلاف، يكون عبر التكوينات المجتمعية لمختلف فئات المجتمع عبر اهتماماتهم أو مهنهم. مؤسسات المجتمع المدني هي القادرة على توجيه الولاء الوطني بصورة إيجابية. لا من أجل تحويل الولاء من المنطقة أو القبيلة إلى المهنة، ولكن لسبب أساس يتمثل في رفع كثير من المسؤوليات عن كاهل الدولة إلى كاهل المجتمع. ذلك أن الحديث يكثر عن تقصير الدولة تجاه بعض القضايا، وهو صحيح في كثير من الأحيان، لكن قد لا تكون الدولة مسؤولة عنها بمفردها. غير أن غياب مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة جعلت المسؤولية تتجه نحو الدولة ليس إلا. إن الحديث لا يتجه نحو الجمعيات الخيرية، وإنما لمؤسسات المجتمع المدني بمفهومها الحديث، وهو أمر أحسب أنه تقتضيه المصلحة العليا للوطن.