عند تقديمنا لإحدى ورش العمل في المنطقة الشرقية، وتحديداً بالقرب من إحدى المناطق القريبة من الحدود الكويتية، ذكر لي بعض المتدربين أن نخبة من وجهاء تلك المنطقة ذهبوا إلى المسؤولين في الشركة اليابانية التي كانت تنقّب عن النفط، وقد عملت لأكثر من عشرين عاماً، وكانت عازمة على الرحيل، نظراً لقرب انتهاء العقد معها. وقد اعترض الوجهاء على الشركة لأنها لم تقدم أي مشروع إنساني أو تنموي لمجتمعهم المحلي، وهي الآن على وشك الرحيل، فماذا كان جواب المسؤولين في الشركة؟ علق المسؤولون: لماذا سكتم طوال هذه السنين ؟؟. نعم، الشركات والمؤسسات التجارية والاقتصادية والمالية سواء الوطنية أو الدولية ليست مؤسسات خيرية، بل هي منظمات أعمال، هاجسها الأساسي تحقيق أكبر عائد من الربح. ومن هنا برزت عالميا وبالتدريج فكرة وجوب «تذكير» هذه المؤسسات الربحية بمسؤولياتها الاجتماعية والأخلاقية تجاه المجتمعات التي تعمل فيها. وقد عرّفت الغرفة التجارية العالمية المسؤولية الاجتماعية (social responsibility ) بأنها (جميع المحاولات التي تساهم في تطوع الشركات لتحقيق التنمية، وذلك لاعتبارات أخلاقية واجتماعية، بحيث تعتمد على المبادرات الحسنة من القطاع الخاص سواء كانت شركات أو رجال أعمال دون وجود إجراءات ملزمة قانونياً، وبهذا فإنها تتحقق من خلال الإقناع والتعليم ). أما البنك الدولي فقد عرّفته المسؤولية الاجتماعية بأنه ( التزام أصحاب النشاطات التجارية بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيهم وعائلاتهم والمجتمع المحلي لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة، ويخدم التنمية في آن واحد ). ويشير (بلوم ستروم ) إلى تعريف المسؤولية الاجتماعية للمنظمات بقوله: ( هي الأفعال التي تلتزم بها المنظمات لحماية ازدهار ورفاهية المجتمع كله، مع الاهتمام بالمصالح الذاتية للمنظمة ). انطلاقا من أدبيات المسؤولية الاجتماعية، وتواصلا مع حديثنا عن المبادرة التي قام بها الوجهاء، التي ندعمها ونؤيدها نقول: إن المنطقة الشرقية تحتل الصدارة في ارتفاع نسب الإصابة بالسرطان على مستوى المملكة، كما أن الأطفال في هذا الجزء من بلادنا الحبيبة هم الأكثر إًصابة باللوكيميا، كما أن نساء المنطقة الشرقية هن الأكثر إصابة بسرطان الثدي، ولعله لا توجد أسرة فيها لم تفقد عزيزا عليها بسبب هذا المرض الخبيث. نحن هنا نعيش وسط ملحمة بترولية تهتز لها الأسواق العالمية والشركات العملاقة تسرح وتمرح وتملك المليارات ولكنها، مع الأسف، لا تقدم إلا القليل اليسير ( الفتات ) للمجتمع المحلي لذر الرماد في العيون، أو تقدم أعمالا خيرية رمزية لا ترضي طموح المواطن، ولعل المدهش في الأمر أن بعض هذه الشركات تتشدق بالشراكة المجتمعية!. تلك المشاركة السطحية التي لا تتناسب وحجم الحاجة الملحة للناس، تذكرنا بكلمة مالكوم إكس، زعيم المهمشين السود حين قال: ( أتظن أنني إن جلست يوما معك على طاولة طعامك، أشاهدك تأكل من صحنك ولا شيء يملأ صحني، أتظن أننا قد اشتركنا في العشاء ؟؟). هذه الشركات مدعوة ليس إلى بناء مستشفى واحد فقط، بل إلى بناء عدة مستشفيات للأورام السرطانية في جميع مناطق المملكة، وكذلك إنشاء عيادات متنقلة للاكتشاف المبكر للسرطان. والسؤال المنطقي أيهما أولى: بناء المستشفيات أم ضبط عملية التلوث بسبب المصانع؟. إن هذا الحيف والإجحاف الذي يتعرض له الناس من تلوثٍ بيئي، وارتفاع لمعدلات الأمراض والتهديدات الصحية، وغياب الرقابة عن العمليات الصناعية وما يتبقى من فضلات الإنتاج، التي تهدد البيئة البحرية، كل ذلك يدعونا إلى البحث عن أدوار تكاملية، وأدوات رقابية تضمن سلامة المسيرة. ولدينا قناعة تامة بأن الشيء الوحيد الذي يكبح جماح شهوة هذه الشركات في تعظيم وجمع الأرباح هو الضغط الاجتماعي والإعلامي، الذي يجب أن يتزايد بهدف دفع هذه الشركات إلى الانخراط في هموم ومعاناة الناس، لتحقيق أكبر فائدة للمجتمع. وقد نلاحظ أحياناً أن هناك شيئا من عدم الاكتراث واللا مبالاة من قِبل هذه الشركات نحو القيام بمسؤولياتها الاجتماعية، لذلك نقترح أن تكون الجهات الرسمية ملزمة بوضع قوانين وأنظمة لتوفير شروط مناسبة لتشجيع هذه المنظمات على تحمل مسؤولياتها. وفي الوقت نفسه نرى ضرورة توسيع نطاق المشاركة في القرارات على مستوى مجالس الإدارة ليشمل أبناء المجتمعات المحلية، ليكونوا أعضاء شرف في هذه المجالس. فهل ماتت الكفاءات؟ إذاً لماذا يتم تغييب أبناء المنطقة علما أن أهل مكة أدرى بشعابها. هذا الطرح ليس مثاليا ففي العالم المتقدم معظم الشركات برهنت على مسؤولياتها الاجتماعية بإنشاء مؤسسات غير هادفة للربح داخل هيكلها التنظيمي. بل ذهبت عديدٌ من الشركات إلى التواصل مع الناشطين البيئيين وأنصار حماية البيئة للحصول منهم على الخبرة والأفكار، وقامت بتقديم مبادرات لدعم ومساندة القضايا الاجتماعية. في الحقيقة، إن مفهوم المسؤولية الاجتماعية له أبعادٌ أكبر من كونه مجرد أنشطة تطوعية أو تبرعات موسمية تشبه الصدقات، بل يتعداه ليصبح برامج وخططا واستراتيجيات، ويمكننا التأمل في تجربة محلية للمسؤولية الاجتماعية تبنتها أرامكو منذ عام ( 1950م). كان الهدف من تلك الاستراتيجية تنمية قطاع الأعمال المحلي كوسيلة لتخفيض التكاليف، وكنوع من المسؤولية الاجتماعية للشركة تجاه المواطنين، بحيث مكَّنت عددا كبيرا ممَن تدربوا على أعمال الشركة على القيام بإنشاء شركاتهم الخاصة بالتنسيق مع الشركة الأم. هذه الاستراتيجية كان لها زخمٌ من العطاء، خاصة في توطين الوظائف في عديدٍ من المدن في المملكة، عبر شركة أرامكو والتابلاين من خلال خط الأنابيب الممتد من المنطقة الشرقية الذي يمر بأراضي شمال السعودية والأردن وسوريا ولبنان، لنقل البترول في تلك الفترة عبر الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط . من خلال تلك التجربة برز كبار رجال الأعمال في المملكة، لكن حدث تحول أو لنقل طرأ تغير شكلي على مسمى تلك التجربة، حيث بدأ التوجه في هذه المرحلة إلى ما يعرف بسياسات التعميد ( outsourcing ) بمعنى إسناد الأعمال الثانوية إلى مقاولين أو متخصصين خارج الشركة لكي تتفرغ الشركة، وتركز على أعمالها الأساسية ( core business ). صحيح أن سياسة التعميد في الدول المتقدمة أصبحت ظاهرة إدارية متميزة، بل أصبحت تخصصاً مثل المحاسبة والتسويق والمالية لأهميتها، ولأن نقل الأعمال الثانوية إلى مقاولين أو إلى شركات خارجية بالتعميد له فوائد عظيمة أهمها أن ينصب جهدها على الأعمال الأساسية لوجودها، لكن ثمة مجموعة من التساؤلات على تجربة التعميد والمسؤولية الاجتماعية: ما هو مصير تلك التجربة ؟ وأين هذه الشركات ؟ وأين دورها تجاه مجتمعاتها المحلية ؟. ختاما أرغب بالتذكير فقط بأضلاعٍ ثلاثة أكد عليها مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة وهي: النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وحماية البيئة.