إذا كان اقتناء السلاح الفردي من قبل المواطنين في اليمن، سببه الدفاع عن النفس، فإن هذا الأمر في حدّ ذاته، يكشف هشاشة قوة السلطة وعدم قدرتها على تأمين أمن وسلامة وحقوق مواطنيها، هذا إلى جانب الفسح في المجال لعديد من المتنفذين -بكل المقاييس- من أن يفبركوا ويختلقوا لأنفسهم «سلطات» تستقوي على السلطة الحكومية الشرعية، وذلك بحجة حماية مصالحهم، فيفرضون هيمنتهم بأساليب عدة خارجة على القانون، مما يؤدي إلى تقويض أي صيغة ل»النظام» والوصول بالبلد إلى الفوضى المدمِّرة. وما أثار الدهشة والاستغراب، هو ما أوردته بعض وكالات الأنباء عن محافظة «الجوف» في اليمن، وشيوع اقتناء السلاح الفردي فيها، حيث من النادر أن نرى مواطناً لا يحمل سلاحاً، بما في ذلك الأولاد والنساء باستثناء العمّال الوافدين، وتبعاً لذلك، فإن إطلاق «الرصاص» قد شكّل اللغة التي يتعاملون بها لحسم الخلافات بين أبناء القبائل في تلك المنطقة، لا سيما وأن مشكلة «الثأر» تحتلّ مركزاً متقدماً من تلك القضايا الخلافية بكل أسبابها ومراميها وتداعياتها المستعصية. ولقد فَرَضَ «الرصاص» نفسه لما يتمتّع به من قوة «الحسم» أن يكون «عملةً» متداولة موثوقة ومطلوبة وذات قيمة لا تُرَد»، إلى جانب الريال اليمني!! والمواطنون الذين لا يمتلكون هذا «الريال»، فإنهم يشترون ما يحتاجون إليه بواسطة طلقات الرصاص! وذلك تبعاً لسعر «الذخيرة» المتداول في الأسواق فهناك «شبه» بورصة خفيّة من دون أسهم، لها حركتها ودورتها الاقتصادية المرتبطة بعمليات العرض والطلب، إلى جانب وجود مقاييس عدة معترف بها من قبل الجميع لتحديد «قيمة» المشتريات، وذلك عبر علاقات تجارية ومالية تشكّلت بالممارسة والعادة والتوافقات غير المكتوبة، والتي تبقي النتيجة معرَّضة للصعود أو للهبوط، وذلك بحسب وتيرة وحركة الطلب على الرصاص. فمثلاً، كيس السكّر زنة عشرة كيلوجرامات يتم شراؤه بخمس عشرة «طلقة» من الرصاص! وكيس القمح يُباع بثلاثين رصاصة!.. وهكذا، حتى تحوَّلتْ عمليات البيع والشراء بالرصاص بحكم الأمر الواقع إلى عادة دَرَجَ عليها سكان هذه المحافظة، حتى أصبحت الثروات تُقاس وتُقدَّر ب»الطلقات»!! وانتشر بائعو «الرصاص» على شكل «تجّار» وعلى شكل «صرّافين» لصرف وتبادل العملات وعلى رأسها «الرصاص»! وربما -والله أعلم- ستّتجه النيات في المستقبل إلى افتتاح «بنك للرصاص»!! وربما أيضاً -من يدري- قد تتطوّر هذه الحالة «الرصاصيّة» وتترسّخ كبنية اقتصادية يُبنى عليها في كل الأمور الاقتصادية والحياتية، فيصبح شراء قطعة أرض أو منزل بالقنابل اليدوية!! ويصبح مهر العروس عدداً محدداً من الألغام والعبوات الناسفة المفخّخة مع ساعات توقيت!! نسأل الله العلي القدير، ألاّ يتطوّر هذا الابتكار من التعامل النقدي ويزدهر إلى درجة يترسخ فيها التداول ب»الصواريخ» و»القذائف المدفعية» وما يعادلهما من العملات الصعبة المدمِّرة!!