عجيب أمر التحالف الوطني الحاكم في العراق، فهو يكيل الأمور بمكيالين، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالدين والولاء الطائفي، فقد خاض في إطار المعارضة العراقية صراعاً دموياً مريراً استمر لسنوات مع نظام البعث العراقي باعتباره نظاماً كافراً خارجاً عن ملة الإسلام، يجب قتاله وإعلان الجهاد ضده، وقد أعطى في سبيل ذلك تضحيات كثيرة، كان هذا موقفه السياسي والديني المعلن حتى الأمس القريب، وعندما أعلنت أمريكا دعم القوى المعارضة العراقية التي كان لهذا التحالف بمختلف اتجاهاته السياسية اليد الطولى فيها، وقررت خوض غمار الحرب ضد النظام الدكتاتوري السابق بهدف إسقاطه، كان يوم عيد وفرحة بالنسبة له، عمل ما بوسعه لمساعدة القوات الأمريكية على غزو العراق والإطاحة بنظامه البعثي، يكفي أن نشير إلى أن من حرض الأمريكان ودفعهم إلى احتلال العراق هو زعيم المؤتمر الوطني الشيعي “أحمد الجلبي” أحد أركان التحالف الوطني الأساسيين، وأن من استقبلهم في الداخل ورحب بقدومهم وأفتى بعدم جواز قتالهم هم زعماء التحالف الروحيين ومراجعه الكبار. هذا كان موقف قادة التحالف الوطني من البعث العراقي قبل فترة قصيرة من الوقت، ولكن ما الذي تغير لينقلبوا 180 درجة على مواقفهم السابقة باتجاه نظام لا يختلف عن النظام البعثي العراقي السابق في شيء؟ فكلا النظامين يطرح الفكرة نفسها التي دمرت المجتمعات العربية وأوقفت عجلة التقدم فيها، وكلاهما يخرج من مشكاة واحدة وينهل من معين واحد ويصدر من فكر متطرف واحد لرجل “مخبول” وهو “ميشيل عفلق”، ويحمل نفس الشعارات المضللة في “الوحدة والحرية والاشتراكية”، فكيف تحول نظام “كافر” يعادي المسلمين عند قادة التحالف إلى نظام “صالح”، والعدو اللدود إلى صديق صدوق؟ وكيف انقلب التحالف الوطني نفسه من مدافع صلب عن حقوق الشعوب العراقية إلى مناهض لها في سوريا ومساند لنظام قمعي ظالم غارق في الإجرام ومنافح عنه في المحافل الدولية؟ على الرغم من أن النظام السوري لا غيره كان حتى وقت قريب يسوم العراقيين سوء العذاب ويناصبهم العداء ويصدر إليهم الموت الزؤام على يد قتلته وإرهابييه ومفخخيه، ويفعل أي شيء لإيذاء العراق والعراقيين وضرب مصالحهم الوطنية وتعكير استقرارهم وخلخلة أوضاعهم الاجتماعية والسياسية، وكثيراً ما شجب زعماء التحالف الوطني تلك الأعمال العدوانية ونددوا بها ورفعوا شكاوى ضد النظام السوري في المحاكم الدولية، والسؤال الذي يطرح نفسه؛ كيف تمكن قادة التحالف الشيعي من تغيير استراتيجيتهم التي ظلوا عليها وناضلوا من أجلها لمدة طويلة؟ ما الذي دفعهم إلى نسيان الماضي الدموي القريب للنظام السوري ووضع يدهم في يد “الأسد” قاتل العراقيين ويصبحون معه سمناً على عسل؟ وكيف استطاعوا فتح صفحة جديدة مع قادة البعثيين العراقيين الموجودين في سوريا ويعقدون معهم صفقات سياسية مشبوهة دون علم البرلمان والشركاء السياسيين؟ هل كان للعلاقة المذهبية المشتركة بين التحالف الوطني “الاثني عشري” ونظام بشار الأسد “العلوي” دور في التقارب بينهما، وخاصة أن هذا التقارب لم يبدأ إلا بعد نشوب الثورة الشعبية “السنية” في سوريا؟ أم إن إيران التي تربطها علاقة تاريخية مع سوريا مارست تأثيرها المباشرعلى قادة التحالف الوطني لاتخاذ هذا الموقف المعيب، مستغلة عدم وجود علاقة بين الدول العربية وبين العراق، ما أفسح لها المجال للتغلغل في العراق وفرض إرادتها عليه؟ لا أحد ينكر أن لإيران دوراً خطيراً وأساساً في العراق وهي تمارسه بمنتهى الحنكة والذكاء، وعلى الصعيدين السياسي والطائفي، وعبر الشخصيات الدينية والمراجع وقادة فكر وأعلام وأصحاب النفوذ السياسية في الدولة كرئيس الوزراء “نوري المالكي”، ناهيك عن علاقاتها الطيبة مع قادة الأكراد وخاصة مع رئيس الجمهورية “جلال طالباني”.. مارست كل السبل الممكنة الشرعية منها وغير الشرعية للوصول إلى داخل النسيج العراقي والتأثير فيه، وخاصة في الجزء العربي منه، وقد استطاعت أن تحرز نجاحات باهرة في هذا المجال تفوق أي تصور وتجد لها موطيء قدم كبيرة في العراق الجديد تستخدمه لمصلحتها.. وإزاء هذا التطور الكبير لسياسة إيران في العراق، تشكلت جبهة سياسية واقتصادية ودينية قوية -مماثلة لتلك التي تشكلت مع حزب الله اللبناني- بزعامتها، مهمتها تأمين المصالح الإيرانية وتوسيع رقعة نشاطها السياسي والتجاري، وتكريس الاستراتيجية المذهبية في المنطقة، والتصدي للدعوات المعارضة في الداخل، والالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة عليها، والعمل جاهدة على تخفيف الضغط على حليفها الاستراتيجي الحميم النظام السوري وإخراجه من ورطته الحالية بأي ثمن!