د. جبران يحيى تحدثنا في المقال السابق عن المحددات التي عينها (جوستاف لوبون)، التي تؤثر في سلوك الأفراد داخل الجماعات، وهي: تقبل الإيحاء، والعدوى الاجتماعية، وانقطاع الصلة الشخصية، ومجهولية الاسم. ففي دراسة العقل الشعبي، وفي بحثه عن اختلاف سلوك الإنسان بمفرده عن سلوكه داخل المجموعة، وعن السؤال الذي شغله لماذا تتصرف الجموع بتصرفات لا يقبلها الإنسان فيما لو كان بمفرده؟ وكيف أن الإنسان المثقف المتحضر يمكن أن يصبح بربرياً؟ يرى “لوبون” أن سلوك الجماعة ما هو إلا “استجابة لا عقلانية لإغراءات الموقف التي تجد الجماعة نفسها فيه، ويرى أن الشخصية الواعية تتوارى ويتولى اللاوعي الجمعي توجيه السلوك وتصبح الناس أكثر قابلية للإيحاء وتنشط الإشاعة. ومن ثم يحدث نوع من العدوى الاجتماعية، حيث يؤثر الأفراد في بعضهم بعضاً انفعالياً، وليس عقلياً، وإذا ما توافقت تلك الانفعالات مع دوافعهم واحتياجاتهم يتحول الانفعال إلى حالة من الهيجان، ويصبح من الصعب كبح جماحهم. ثم يظهر لدى الشخص ما سماه (لوبون) بعدم التمييز الفردي، أو الشخصي، حيث يرى الأحداث والجماعات بصفة واحدة، فلو كانت هناك مجموعة معادية يرى كل أفراد المجموعة بنفس الحكم، أي أنهم سيئون جميعاً، وهذا ما يفسر الهجوم على الجماعة بشكل شامل دون التمييز، فلو كانت هناك جماعة تختلف مع جماعة ما ستعمم كل الصفات السيئة على تلك الجماعة دون تمييز. والعنصر الأخير الذي سماه (لوبون) مجهولية الاسم، ويقصد به ذوبان الهوية الشخصية داخل الجماعة، ويرى أنه كلما حالت الجماعة دون ظهور الهوية الشخصية زادت الجماعة تطرفاً، ويتخلص الفرد من القيود التي تمنعه من ارتكاب سلوك متطرف، لكن الجماعة تمنحه الرخصة، ما يسهل إزاحة المسؤولية الأدبية والأخلاقية على الجماعة، مما يخفف من مشاعر الذنب، حيث يصبح سلوكه مقبولاً اجتماعياً. ولهذا تسعى بعض الجماعات لتطويع أفرادها بإلغاء شخصياتهم وتذويبها داخل الجماعة، مما يسهل توظيفهم، ليصبحوا أداة طيعة لينة ليست لديها قدرة على التمييز، أو الفحص، وتستخدم الجماعة الوسائل والأدوات المختلفة لتذويب الهوية الفردية داخل الهوية الجماعية من أجل خدمة أهداف محددة معلنة وغير معلنة.