يصعب عليك، حين تتعثر وانت طفل في الحياة، أن تنهض ويكون عليك أن تحمل مثل سيزيف صخرتك وتعود للنهوض كل مرة تسقط فيها، هذي هي حال عايدة التي يروي فيلم “يا من عاش” الوثائقي التونسي قصتها في الثورة، وبعدها ليظهر أن أي شيء لم يتبدل بعد في تونس. قدم الفيلم خارج المسابقة الرسمية في الدورة التاسعة والخمسين من مهرجان البندقية السينمائي الذي تختتم فعالياته السبت. ووقعت العمل الواقعي التونسية الشابة هند بوجمعة، في أول تجربة لها لتصور حكايا من يوميات تلك المرأة التي تنتمي إلى طبقة مسحوقة في المجتمع التونسي لم تغير الثورة في واقعها شيئاً، ولم يكن أحد يتحدث عنها في ظل النظام السابق. وقدم الفيلم مساء الأربعاء في عرض رسمي شاركت فيه المخرجة عقبه في نقاش مع جمهور البندقية الذي يظل مسيسا ومعنيا بقضايا العالم، ويحب مناقشتها مع ضيوف المهرجان، خاصة في التظاهرات والعروض الموازية للمسابقة الرسمية. وشرحت هند بوجمعة المتخصصة أصلاً في التقنيات السينمائية، لوكالة فرانس برس، كيفية وقوعها على “عايدة” تلك المرأة التي يروي الفيلم سيرتها. فتقول “تعرفت إلى عايدة في الشارع خلال فترة التظاهرات، كان البلد يشهد حراكاً مختلفاً، وكان الأمل في عيون الجميع، وحين وقعت عيناي على عيني عايدة بدت لي كانها ضائعة. كان إحساسنا قويا بالحرية، وكان في عينيها ألم”. طوال سنة ونصف، تلتحق كاميرا هند بوجمعة بعايدة خلال الثورة، وخصوصاً بعدها لتطل على واقع تلك الأم الفقيرة، بل المعدمة والمطلقة والأم لأربعة أولاد اثنان منهم وضعا في دار رعاية واحدهم معاق تهتم به الوالدة التي لا تملك سكناً محترماً، ولا عملاً يقيها شر العوز بعد طلاقها المبكر. وتوضح المخرجة، التي أرادت من خلال سيرة هذه المرأة، تسليط الضوء على هذا الواقع المسكوت عنه في المجتمع التونسي “عايدة هي واحدة من مليون امرأة تونسية تعيش بمفردها ويكون عليها تدبر أمرها لوحدها من دون أي مساعدة من أحد”. وإذا كان التونسيون يستخدمون الكلمة الإيطالية “ميزيريا” في وصف البؤس فإن عايدة هي تجسيد لهذه الكلمة. فبحسب هند بوجمعة، “كثير من الأفراد في المجتمع التونسي يحسون بأنهم أموات لا عمل لهم ولا يستطيعون الحصول على شيء”. وينتهج الفيلم خطاً واقعياً بدون مسايرة، أو مداراة في تصوير واقع المسحوقين الذين نشأوا في حقبة الرئيس زين العابدين بن علي، ويستمرون اليوم من دون أن تغير الثورة في واقعهم شيئاً، خاصة المرأة. وتثير مكابرة المجتمع التونسي وإخفاء هذا الواقع استنكار المخرجة التي تقول: “في تونس كانوا دائماً يقولون بخصوص الفقر: نحنا ما عندناش هذا، لا سرقة ولا حبس ولا فقر وكأننا كنا ملائكة أيام بن علي… ما أحببت إظهاره هو هذا الواقع المختلف والموجود في المجتمع”. في الفيلم تمنح عايدة هدايا حياتها القاهرة للمخرجة بعد أن حلت الثقة بينهما، فتبوح بمفاجآت غير منتظرة مثل تعرضها للتحرش في طفولتها ولجوئها إلى السرقة أحياناً لتعيش. وتصطحب كاميرا هند بوجمعة “عايدة” إلى سجن النساء في تونس، ثم تقف الكاميرا مع ابنها المعاق أمام باب السجن لتستقبلها عند خروجها، لكن الفيلم يوحي أنها سجنت ظلماً هذه المرة، بعد اتهامها بسرقة سيدة كانت تعمل في تنظيف منزلها. في الفيلم تحكي إحدى النساء السجينات أنه حكم عليها بشهرين من السجن، لأنها سرقت هاتفاً، وتذكر المخرجة التي قضت يومين في سجن النساء مع السجينات بضرورة تعديل النظام القضائي في تونس وإصلاحه في وقت لا يكف فيه رجال القانون عن العمل على ذلك. تبدو عايدة التي تبكي وتعنف وتبحث وتتخبط صورة مصغرة عن تونس التي لم يكد يتبدل فيها شيء وصورة البلد هي أيضاً تتعثر وتتخبط في محاولتها النهوض في ظل وضع اقتصادي مترد للغاية. تعيش عايدة حياة من دون أمل لذلك فهي منحت الشريط كل شيء عساه يغير شيئاً في حياتها. أما عن الطريقة التي اتبعتها المخرجة في صنع عملها فتقول: “ذهبت إلى الفيلم عن طريق قلبي، ولم أبحث كثيراً. حملت الكاميرا واعتمدت على إحساسي. لم أخطط للعمل ولم أرد مشاهدة ما صورته لفترة طويلة. كنت أريد تتبع إحساسي ليس إلا ولم أكن أريد الحصول على عمليات محسوبة تأخذ الفيلم في اتجاه آخر”. وكشفت هند بوجمعة أنها أنجزت كتابة سيناريو لفيلم روائي طويل ستستعد في المرحلة المقبلة لإنتاجه، وسيكون محوره اجتماعياً أيضاً. وقالت “في تونس علينا القيام بمجهود كبير للتعريف بالمجتمع ومشاكله والاقتراب من مشاكل الناس وواقعهم”. أما أمنيتها فهي أن “تقوم السلطات في بلدها بمشاهدة الفيلم وأن تستمع إلى هؤلاء الأشخاص وتعمل على حل مشاكلهم بدلاً من أن تزيد فيها.” وكلف إنتاج “يا من عاش” الذي صور بأنواع مختلفة من الكاميرات الرقمية 120 ألف دولار جاءت كلها من صناديق عربية للمساعدة على الإنتاج. وشدد منتجا الفيلم التونسيان، محمد الحبيب عطية، ودرة بوشوشة، على أهمية مسألة الإنتاج العربي الكامل للفيلم الذي أنجز بدون أي منتج غربي “كان يمكن أن يطلب تغييرات في السيناريو”. وبات للأفلام العربية الوثائقية صناديق دعم عربية عدة قد تكفي أكبر حاجات العمل، وهو أمر مستجد على ساحة الإنتاج الوثائقي العربي، لكن التلفزيونات كما يرى المنتجون لم تقم بعد بدورها المطلوب للمشاركة في إنتاج الأفلام الوثائقية كما هي الحال في كثير من بلدان العالم. أ ف ب | البندقية