كشف وزير خارجية السودان الأسبق حسين سليمان أبو صالح في حواره مع “الشرق” الطريقة التي كان يتلقى بها السودان التهديدات الأمريكية، موضحا “كانت تصلنا في ورقة صغيرة دون ترويسة أو إمضاء ويقولون فيها، إذا لم تتغير السياسات ستواجهون حصاراً سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا”، وأقر بفشل جميع المحاولات لتصحيح العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. وأوضح أن وضع أمريكا للسودان على قائمة الإرهاب كان نوعا من التخويف وسياسة لي الذراع. وتطرق وزير الخارجية الأسبق إلي جولاته المكوكية لإصلاح علاقات السودان مع دول الجوار الأفريقي، حيث سافر إلي مصر سبع مرات لمحاولة تحسين العلاقات ولكنه فشل، وقال “إن أوغندا أكبر دولة معادية للسودان”. ورفض أبو صالح الاتهامات التي تصف خطاب حكومة الإنقاذ الأولى “بالمتشدد”، وأقر بخطأ حكومة السودان بعدم إدانة غزو العراق للكويت، وقال “كان من المفترض قبل البحث عن الحل عن طريق البيت العربي إعلان موقف واضح يقر بصريح العبارة بخطأ غزو العراق للكويت”. وأشار الوزير السابق إلي أن التوجه شرقا أنقذ السودان. وقال إن البترول كان ثمرة انفتاح السودان مع الصين خلال الفترة الصغيرة التي أمضاها في الخارجية، وكان السودان فيها محاصراً من الدنيا كلها. وهذا نص الحوار: - الفترة التي كنت فيها وزيرا للخارجية حساسة للغاية نظرا لخطاب حكومة الإنقاذ الأولى المتشدد...هل هذا كان سبباً في صعوبة مهمتك كوزير للخارجية؟ – وصف خطاب الإنقاذ بأنه متشدد آنذاك غير صحيح، بالعكس هناك نوع كبير من المرونة، إعلان المشروع الإسلامي في السودان كان العقبة الرئيسة التي تم تناولها بأشكال مختلفة في أنحاء متفرقة من العالم، وشكل أزمة بين السودان والعديد من البلدان خاصة العربية. ولكننا حاولنا تحييد بعض الدول لكى لا تقف موقفاً عدائياً ضد السودان. وربما يكون الحديث أصح لو قلنا إنه كانت هناك أصوات عديدة للعلاقات الخارجية مع الدول، صوت الإعلام، وصوت الشباب، بالإضافة للرأي العام، وهذا يجعل المهمة أكثر صعوبة بين ما ترمي إليه الحكومة السودانية متمثلة في وزارة الخارجية وتلك الأصوات الأخرى. والمسألة ليست تشدداً وهذا النوع من الوصف غير دقيق إلا إذا اعتبرت النهج الإسلامي في حد ذاته تشدداً. – كانت هناك أناشيد وهتافات على غرار: أمريكا وروسيا قد دنا عذابهما، والطاغية الأمريكان لكم تدربنا،...أليس هذا خطاب حكومة الإنقاذ الأولى؟ – هذا ليس خطاب الدولة وإنما هتافات مجموعة من الشباب من تنظيمات إسلامية معينة. – لنفترض صحة ذلك.. لكن يونس محمود كان يتحدث في الإذاعة الرسمية للبلاد بخطاب متشدد ويمثل الخطاب الإعلامي الرسمي ويعبر عن المرحلة بكامل تفاصيلها؟ – أنا قلت إن هناك أصواتا تضر بعلاقتنا الخارجية، طالبت بضرورة توحيد الخطاب الإعلامي، وقتها كان طلبي هذا مستحيلا لعدم وجود جهة تستطيع إرغام الآخرين بالمضي في خط معين في الإعلام لذلك أقمنا في الخارجية منبراً اسمه منبر الثلاثاء نتحدث فيه عن موقف الحكومة السودانية من الأحداث المختلفة أسبوعيا. – وماذا عن يونس محمود عضو مجلس قيادة “ثورة الإنقاذ” وأحاديثه في الإذاعة الرسمية التي كان يتجاوز فيها كل الأعراف الدبلوماسية وبروتوكولات أدب التعامل؟ – يونس كان يشط في خطابه كثيراً جداً، ولا ينسق مع الخارجية وهو كان يقول حديثه في الإذاعة السودانية وأنا قلت إن هذا الصوت لا يمثل السودان. – كيف كانت تصاغ السياسة الخارجية، ومن الذي كان يضعها، مؤسسات الدولة أم التنظيم؟ – كل العاملين في الخارجية يشاركون في وضع السياسة الخارجية للبلاد بالإضافة إلى وجود مكتب أو مجلس في الشؤون الخارجية برئاسة رئيس الجمهورية وهو الذي كان يقرر الخطوات. – حسب إفادتكم أن مجلس السياسة الخارجية هو الذي يصيغ سياسات السودان الخارجية. فلماذا الوقوع في خطأ عدم إدانة غزو العراق للكويت؟ – عدم اتخاذ موقف من عدوان العراق علي الكويت كان خطأً جسيماً، وكانت هناك قفزة لمحاولة تصحيح الأمور للوضع من داخل البيت العربي، أسوة بما تم في السابق في فترة عبد الكريم قاسم، وحينها حدث تدخل عربي وكان السودان رئيس هيئة أركان الجيوش العربية التي حققت انسحاب العراق من الكويت، وكان السودان يمضي في هذا النهج بحل الأزمة من داخل البيت العربي، وليس من خلال محاولة إدخال قوة أجنبية ستكون لاحقا أداة من أدوات السيطرة والهيمنة علي المنطقة، ولكن كان من المفترض قبل البحث عن حل عن طريق البيت العربي أو غيره إعلان موقف واضح يقر بصريح العبارة بأن غزو العراق للكويت خطأ. ولكن في تقديري أن دخول القوات الأجنبية للمنطقة هو استعمار جديد. هذا الأمر بالطبع ألقى بظلاله على علاقات السودان الخارجية مع الدول العربية. – كيف تمت اللقاءات مع الصينيين في البداية وإقناعهم بالاستثمار في مشروع البترول والسودان محاصر بمحيط من العداء المتأصل؟ – قدمنا ما لدينا من ملفات بخصوص الإمكانيات الضخمة بالنسبة للسودان عامة والبترول خاصة وهي موجودة في وزارة الطاقة ونقلناها بأكملها إلي مدير الشركة الوطنية الصينية للبترول وهو كان وزيرا للطاقة والنفط، وكانت أول زيارة في العام 1994م، ووضعنا كل المعلومات اللازمة، واستوعب الطرف الصيني ضرورة وجود تعاون إستراتيجي مع السودان، وعندما جاءت الوفود وعقدت اجتماعات أخري وكانت النتيجة هي الخطوة الجريئة بدخول الصين مجال التنقيب واستخراج البترول بجانب الاستثمارات المختلفة. وفي تقديري أنه لم يحدث أي تغيير في السياسة الأمريكية إلا عندما ظهر النفط في السودان، فبدأت التهديدات من أمريكا تأتي في شكل ورقة صغيرة دون ترويسة وكتب فيها “يا سودان إذا لم تغير سياساتك نحن سنحاصرك سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا”، وهذه الورقة تأتي من الأمريكان ويطلبون فيها تغييرالسياسات ويطلبون أما التعاون معهم أو الحصار والعقوبات. – السودان تعاون مع أمريكا في مجال مكافحة الإرهاب في الوقت الذي مازال فيه اسمه موجودا في قائمة الإرهاب ...كيف يستقيم هذا الأمر؟ – لم يكن هناك أي دليل علي رعاية السودان للإرهاب أو العمل في حركات سرية؟ ولا يوجد إطلاقا سوداني واحد قام بعمل إرهابي في أي مكان في العالم، سواء كان موجهاً من تنظيم في داخل السودان أوغيره. وأنا اعتقد أن وضع السودان في قائمة الإرهاب هو نوع من الابتزاز السياسي ولي الذراع حتي نخضع للهيمنة والإستراتيجية الأمريكية. وأذكر حينها كتبت خطاب تهنئة لوزير الخارجية الأمريكي الجديد آنذاك أورين كريستوفر، وبدوره رد على خطابي وقال فيه “إن السودان ليس بلدا إرهابيا وليس لدينا سبب لوضعكم في قائمة الإرهاب ولكنكم تحت المراقبة فقط”. وبعد أسابيع أعلن رسميا ضم السودان إلي قائمة الإرهاب، والسبب الحقيقي لوضع السودان في قائمة الإرهاب ليس لممارسته أنشطة إرهابية وإنما لتشتيت الانتباه عن المفاوضات السرية التي كانت تجرى في أوسلو “اجتماعات غزة أريحا”، والسودان كان يقف ضد هذا المخطط وهم يعتبرونه يقف مع الحركات المتشددة مثل حماس والجهاد. وحتي الرئيس الأسبق جيمي كارتر استغرب مسألة وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب لعدم وجود دليل، وكذلك السفير الأمريكي في الخرطوم بايترسون كان مستغرباً جدا من ذلك. – هل حاولت أمريكا أن تتدخل في الانتخابات لإيجاد آلية لتفكيك الإنقاذ من خلال حشد المعارضة خلف الحركة الشعبية وإيجاد صيغة من التحالفات لحكم البلاد؟ – كانت الولاياتالمتحدة تسعى لتأجيل الانتخابات لتتمكن من تشكيل طيف واسع من معارضي حكومة الإنقاذ، وفي ذات الوقت رفع موضوع البشير إلى المحكمة الجنائية، والعمل في الانتخابات للوصول لنتيجة تضمن النصر للمعارضة حتى لو بنسبة 55 % على أن تكون رئاسة الجمهورية لشخص جنوبي ويكون نائبه شمالياً من الشمال، وتشكل الحكومة من الحركة الشعبية لتحرير السودان(الجنوب) والمعارضة، وهذه الحزمة من المقترحات كان مأمولا أن تتم ولكنها لم تحدث وفشلت، ورغم ذلك لم يحدث تغيير في الخط الأمريكي. – العلاقات مع دول الجوار الإفريقي كانت متوترة إبّان توليك أعباء الخارجية خاصة مع أثيوبيا وأوغندا وإلي حد ما كينيا.. ماالجهود التي قمت بها لإصلاح هذه العلاقات؟ – أسهمت حكومة الإنقاذ في حدوث تغيير الحكم في أثيوبيا، وكذلك في استقلال أرتيريا، ولكن إعلان الحكومة السودانية الشريعة الإسلامية أحدث توتراً مع أثيوبيا وأرتيريا وكان له رد فعل وتأثير عليهم بالتأكيد، والمعادلة أصبحت في كيفية التوافق ما بين السودان وأثيوبيا وأرتيريا في ظل التوجه الإسلامي دون أن يكون هناك نوع من التأثير في العلاقات. وبالنسبة لإخواننا في مصر كان الإسلام السياسي آنذاك مرفوضاً، بدليل حظر نشاط الإخوان والجماعات الإسلامية في مصر، وبذلك عندما أعلنت السودان تطبيق النهج الإسلامي، قوبل بالرفض، وحاولوا تغيير هذه السياسة وكان لديهم موقف معين. – هل عبروا لك عن ذلك صراحة؟ – طبعا بالسياسات ولكنهم كانوا يتوهمون ارتباط السودان بالحركات الإسلامية المتطرفة في فلسطين وإيران. – هل أفلحت الزيارات المتكررة في تليين الموقف المصري تجاه السودان؟ – أبداً وكانت اتصالاتي مع عصمت عبد المجيد وهو الأمين العام للجامعة العربية وحاولت تحسين العلاقات رغم قناعتي بصعوبة ذلك. وفي موضوع حلايب ذهبت إلي مصر في اجتماع لوزراء خارجية الدول الإفريقية وكان الاجتماع يرتب للقمة الإفريقية وكنت أتحدث مع عمرو موسي وزير خارجية مصر آنذاك، فقلت لموسي “أنا أريد أن أرفع موضوع حلايب للقمة الإفريقية، فرد علي قائلاً إن فعلت ذلك فسأقول إن السودان دولة إرهابية”. واحتد النقاش بيننا وتدخل وزراء خارجية كينيا والصومال وليبيا وتونس وفضوا الاشتباك وقالوا يجب أن نصل إلي حل، وقالوا من الأفضل ترك هذا الموضوع لمناقشته في قمة بين الرئيسين، ومن جهتي أجريت اتصالا في الحال بالرئيس البشير وبالفعل جاء إلي مصر، مرتديا زي”البجة” وهو زي سكان منطقة حلايب، وحدث لقاء بينه وبين مبارك. – في تقديرك الخاص الإستراتيجية الأمريكية تجاه السودان ...هل كانت مع انفصال الجنوب أم وحدة السودان وإجراء إصلاحات هيكلية في بنية الحكم؟ – لو اطلعت علي المبادرة الأمريكية الوحيدة التي قدمت للسودان لحل موضوع حرب الجنوب عام 1990م وهي تسمي مبادرة كوهين، وهذه المبادرة تتحدث بوضوح عن وحدة السودان، وهذا معناه أن الأمريكان حتي 1990 كانوا مع وحدة السودان. والسؤال لماذا تغير الموقف؟ الموقف تغير منذ العام 1993م عندما تم إعلان الشريعة الإسلامية، وعقدت ندوه تسمي ندوة واشنطن دعوا لها كل المعارضة السودانية من الشمال والجنوب، لمناقشة تقرير المصير واحتمال انفصال الجنوب، وحضرها من الجانب الأمريكي أكثر من أربعين عضواً، بالإضافة إلي عدد من الجنوبيين من بينهم الدكتور فرانسيس دينق، وأيضا كان عدد من الشماليين من بينهم محمد خليل إبراهيم، وحمد الأمين بشير، وتم إعداد دراسة متكاملة لوضع الجنوب، وهؤلاء هم الذين قرروا أن يكون السودان بنظامين إسلامي في الشمال، ونظام مدني في الجنوب خلال الفترة الانتقالية. ثم النظر بعدها إلي موضوع تقرير المصير، ولكن حدث أن كل القوى من اللوبي الصهيوني واللوبي المسيحي واللوبي الأسود في أمريكا وقفوا مع فصل الجنوب، وإبعاد النظام الإسلامي من الشمال في نفس الوقت، وإيجاد جدارعازل ما بين المنطقة العربية الإسلامية، وإفريقيا ككل، ولذلك أن موسفيني (رئيس أوغندا) هو الذي ينفذ السياسة الأمريكية الصهيونية الإسرائيلية، وهناك مركز ومعقل للموساد في أوغندا. والمدعو روجر ونتر (مستشارا لحكومة جنوب السودان) من ألد أعداء السودان، أمريكا أصبحت مع خيار فصل الجنوب ولكنها تخشي أن تكون دولة الجنوب فاشلة وأن يعاد إنتاج النموذج الصومالي في الجنوب وتصبح لهم ابتلاء كما هو الحال في الصومال. – ولكن البنتاغون أبدى تخوفا من انفصال الجنوب واتحاد الشمال مع مصر حتي لا يشكلان دولة قوية جدا؟ – ليتنا اتحدنا مع مصر.