في مقالٍ سابق، ذكرت أن القلطة خرجت من إطارها التراثي، وتحولت إلى فن احترافي ليس له من القيمة الفنية ما يشفع له بالبقاء في الذاكرة، وليته بقي عند هذه النقطة، لكنه مع الأسف زاد من تكريس العنصرية البغيضة، وأذكى فتيل الكراهية في المجتمع. نعم، بخروج القلطة عن ماهيتها انتصر الجهل والغباء، وأصبح الشاعر أداة عبثية بيد القبيلة لجلد القبيلة الأخرى. الشاعر الآن مرتهن للمتلقي، فالمتلقي يملي على الشاعر قناعاته، وما يتفق مع وعيه وإدراكه وسطحيته. ومما يزيد هذا السوء سوءاً جهل الشاعر نفسه، فالشاعر لا يمتلك الوعي الكافي بما يمارسه من فن، فقط همه الأول والأخير الكسب المادي، وعند هذه النقطة حدّث ولا حرج. وهنالك نقطة أخرى في غاية الأهمية، هي أن المتلقي يمثل شريحة كبيرة من الشباب الذين لا هَمّ لهم سوى تعاطي السهل والبسيط، أي أنهم أسلموا عقولهم لمن يفكر عنهم بالنيابة، واكتفوا بالحكم الجاهز والتبعية، هذه الشريحة أضحت علامة فارقة عند أصحاب فن القلطة. فهم إفراز طبيعي للجهل المركب والمرتب، فمن سماتهم رفض كل ما هو غير مألوف، والوقوف ضد كل ما هو جديد. قد أجد من يعارضني، ولكنها هي الحقيقة المؤلمة، التي تدل على أننا نعيش في أسوأ مرحلة، وانتشار الشعر بهذه الصورة ظاهرة مرضية مفجعة ومفزعة، لأن هكذا اهتمام بهذا الفن العبثي دليل أكيد على رجعية الذاكرة، وأنها تتوكأ على منسأة التخلف. بكل أسف، الأمة أسلمت روحها لمن يشعل الظلام، ويغتال النور والبياض، لذا علينا أن نصحو من مرقدنا، ونعيد دفق الضوء والأمل إلى ما بقي من هذا الجسد المترهل، وأنا لست ضد الشعر، لكنني مع الشعر الذي فيه استشراف وانعتاق ورؤية، ومع الشعر الذي يكون ابتداء للابتداء، وانتصارا للانتصار، ومع الشعر الذي يكون مهمازاً لكل ما هو جديد وجميل وإبداعي، ومع الشعر الذي يرسم خارطة لا حدود لها من البياض والتجلي. أيها الشعراء: ارحموا الشعر، وإلا فأعلنوا الانهزام وعليكم بالالتزام.