في طفولتي، كنت أعشق القصص، وكانت «خالة فوزية» زوجة عمي، تروي لمخيلاتنا الصغيرة أقصوصات، حُفرت عباراتها في أخاديد الذاكرة، أجملها كانت قصة «الصياد»، التي تتراقص بين أحداثها من حين إلى آخر جملة سحرية صغيرة ترددها زوجة الصياد الفقير كلما عاد خائباً من رحلة عمل فاشلة، حيث كانت هذه المرأة الرائعة تبتسم له ثم تتمتم بهدوء«تبات جمر وتصبح رماد وييسرها رب العباد». ويلفظ عقله المعلق ب « لقمة العيش» خيوط الأمل، الذي تلون به حديثها، فهو لا يؤمن إلا بما يراه، ولا يرى إلا ما يريد رؤيته، لكن إيمانها العميق لا يتآكل أمام يأسه وجوعهما، فتعزف موسيقاها بحب كل يوم. وفي نهاية القصة، حظي الصياد بسمكة ضخمة إنما بعد أن أقفلت السوق بابها، فما الفائدة من سمكة – مهما كان حجمها- إن تناولتها الحرارة قبل أن تتذوقها؟. حاول مستميتاً أن يبيعها للمارة ولو ب «ثمن بخس» فلم يفلح، بيد أنه جرّ هزيمته معه إلى كوخه البعيد، حيث استقبلته شريكة درب الكفاح والصبر بحكمتها «تبات جمر وتصبح رماد وييسرها رب العباد»، سخر من حماقة تفاؤلها حين قالت «سنأكل وجبة رائعة اليوم»، وما إن شقّت سمكتها في المطبخ، حتى بزغ اللؤلؤ من قلب عشائهم الفاخر، فتقزّم تذمره أمام ثقتها، وتواضعت لغته تحت وطأة صدقها. في الغد، استيقظ باكراً ماراً من سوق السمك إلى سوق المجوهرات، حيث باع اللؤلؤ، واقتنى قصراً جميلاً، عاش فيه مع أبنائه وزوجته حياة جديدة يغلفها الترف. ألا يذكرك الصياد بشخص تعرفه؟ كلنا يحفظ كلمات التشجيع، لكن معظمنا يتناساها حين يأتي دوره، فنتمسك كحافظات الحرارة بمخزوننا الفكري المسموم، ثم نؤجّر عقولنا لأول شخص محبِط يرمقنا بنظرات عطف باردة. الضغوطات التي تستفز قوتنا بين الفينة والأخرى، الرسوب، فقدان الوظيفة، المرض، الطلاق، وكل تلك الآلام الصغيرة، هي فرصة رائعة لخلق حياة جديدة، إذا ما انتشلنا ذواتنا من الآثار المدمرة التي يخلفها الانكسار النفسي. لست مضطرا لتجاهل مشاعرك، لكن تَفهُّمها، ولا أدعوك للقسوة على ذاتك، كما أنك لست مجبراً على أن تطرق أبواب الحلم الذي قد تراه بعيداً، ولكن ضع أمام عينيك الحزينتين كلمة واحدة، ورددها برضا «تبات جمر، وتصبح رماد، وييسرها رب العباد».