بالحب استقبلناه، وها نحن بالحب ذاته نقول: وداعاً رمضان، وداعاً شهر الخير والبركات، وداعاً شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران.. في وداعك يا حبيبي تشيعك القلوب بالدعاء، لعلنا نلتقي بك في العام القادم، فأنت عائد لا محالة، ولكننا لانضمن البقاء حتى تعود، وسندعو الله كثيرا أن تأتي عودتك ونحن في أتم صحة وأحسن حال، وما ذلك على الله ببعيد. كثيرة هي الدروس التي نتعلمها في أيامك ولياليك،أقلها النظام والترتيب، في النوم والأكل، فننام ونصحو في مواعيد محددة، ونأكل ونشرب في أوقات محددة وكذلك نمسك عن الأكل والشرب في موعد محدد يلتزم به الصائمون، وهذا تصديق لقول الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، (صوموا تصحوا)، ولعمري إنه مفيد لصحة أبداننا، وأذهاننا، فالبطنة تذهب الفطنة، وفي نهاراتك نتعلم التسامح والصبر والهدوء والطمأنينة والمحبة والإيثار، ونتعلم الموازنة بين غذاء الروح والعقل، وغذاء الأبدان. وها نحن بعد رحيل شيخ الشهور سنعود نتشهى لياليه،ونتمنى روحانيته، ولكننا نؤمن أن من تذوق حلاوة الطاعة، وغسل قلبه من المعاصي والآثام، لا ترضى نفسه أن تعود إليها بعد أن تطهر منها، فحبل الله ممدود على مدار العام، وانتهاء رمضان، لا يعني انتهاء العبادة، ولا يعني انتهاء الرحمة والمغفرة وأنها فقط مرتبطة به، فالله الخالق المعبود موجود في كل الشهور والأيام، ورحمته وسعت كل شيء.. فالعبادة لا تنقطع بعد رمضان، فقد خلق الله الجن والإنس ليعبدوه، في كل زمان ومكان، فالصوم كسائر العبادات مستمر مع العباد وقد منحنا الشرع أياما للصيام فيها، كصيام الست من شوال، والأيام البيض، وصيام يوم وإفطار يوم، وصيام الإثنين والخميس وأيام عشر من ذي الحجة، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وغير ذلك من الأيام المشروع الصيام فيها. وقراءة القرآن من الطاعات المتعبد بها، في كل وقت، وقراءة صفحة واحدة من آيات الذكر الحكيم كل يوم، كفيلة أن يختم القرآن ولو مرة واحدة خلال العام، وكفيلة أيضا بأن تشهد للعبد يوم القيامة، وكذلك القيام لا يتوقف بانتهاء رمضان فمن أراد أن يتهجد، فله النصف الأخير من الليل، وبعض الثلث الأخير يكفي،وكلها أوقات مشروعة للتعبد والتهجد. والدعاء سواء كان مخ العبادة، أم العبادة، فهو وسيلة من وسائل الطلب بين العبد وربه، ولن ينقطع التوسل والسؤال والطلب من الله تعالى، فالله يقول في كتابه العزيز ([وقال ربكم ادعوني استجب لكم])، والله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا، في الثلث الأخير من الليل، فيقول: (من يدعوني فاستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له). نسأله سبحانه وتعالى ألا نكون بعد رمضان كالتي نقضت غزلها، وألا نستعجل في العودة إلى الانغماس في اللهو والملذات، وألا نشعر أنفسنا بأننا نخرج من السجن إلى الحياة، بينما نعرف جيدا أن العبادات فيه هي الحياة الأجمل، والطاعات فيه هي الأجر الأكمل، والثواب الأعظم، وما نحن في الحياة من لهو ولعب وعبث فهو ديدن بعيد الخطى، وميدان فسيح الخطأ يسير فيه الغافلون عن ذكر ربهم، وهكذا هي الحياة التي تعودوا عليها، آخذين في اعتبارهم (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وزينة وتفاخر)، ولم يفقهوا أن الله ضرب مثلا في الآية الكريمة (كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرا،ثم يكون حطاما). (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ). وها نحن نودع شهرنا المبارك، والقلوب تجزع عند الوداع، والعيون يفيض دمعها في صمت على هذه الأيام المباركة التي نودع فيها ضيفا عزيزا وكريما، ورحيما، ولا ندرى هل أدركنا فيه من الحسنات وهل باركتنا فيه ليلة القدر وهل أعتقت رقابنا في لياليه العشر المباركة ولكننا بقلوب خاشعة نأمل من الله أن يتقبل صيامنا وقيامنا ويعيده علينا أزمنة عديدة اللهم آمين.