الشيخ نبيل الرفاعي، إمام جامع التقوى في جدة، صوت يأخذ بتلابيب القلوب، يصّعّد بها في سماوات الملكوت الأعلى، والترقي في مقامات الخشوع، تشف مع قراءته الروح، صوت لا خدش فيه، وإتقان للقراءة بأكثر من مقام، وتظل قراءته الحجازية من أجمل القراءات الحجازية الباقية إلى اليوم، بعد أن حُرمنا من صوت القارئ الكبير الشيخ محمد أيوب في إمامة الحرم النبوي الشريف، وقبل ذلك رحيل شيخ الترتيل القارئ زكي داغستاني رحمه الله. الغالب على دعاء القنوت في مساجدنا في رمضان، التمسك بمأثورات بعضها لا يمتد تاريخ رفعه إلى أكثر من بضع عشرة سنة، وأغلب الأئمة الكرام في بلادنا يسيرون على دعاء الشيخ عبدالله الخليفي رحمة الله عليه، والأجدر بهم أن يجتهدوا كما اجتهد الشيخ الخليفي رحمه الله، ويبحثوا عن مأثور الأدعية الجامعة، لا أن يمعنوا في الترديد والتنويع والسجع المبالغ فيه، فيجتهد بعض الفضلاء في استقصاء التفاصيل والتنويعات، على شاكلة (ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيّماً لا زوجته، ولا حيران إلا دللته، ولا ولا ولا…) أدعية لا بأس بها، لكن الدعاء بها في كل ليلة، وترديدها وكأنها أصبحت نصاً، والحرص على السجعات المتوازية، هذا كله لا أصل له ولا سند، والله أعلم. الشيخ نبيل الرفاعي، يبدع في دعائه كما يبدع في تلاوته، قنوت الشيخ الرفاعي يحافظ على المأثور في الدعاء، ويلامس حاجات الناس الواقعية، ومن أعجب ما سمعت لهذا الرجل، دعاؤه للمبتعثين، بالحفظ والتوفيق والتحصين وخدمة البلاد والعباد. هنا الدعاء النابع من واقع المصلين الذين يقفون خلفه يرفعون أكفهم لرب الأرباب، حين يكون السؤال واقعياً ملامساً للناس، فإن التأمين يخرج من قلب صادق وحاجة ملحة، وليس تأميناً على سجعة يومية معتادة. الحديث عن الأئمة في المساجد يقودنا عن الحديث عن المؤذنين. الأذان شعار عظيم لشعيرة أعظم هي عمود الدين (الصلاة)، وقد اختار النبي عليه الصلاة والسلام مؤذنيه من «الصيّتين» أي ذوي الصوت النديّ الحسن، كبلال بن رباح وأبي محذورة رضي الله عنهما. المؤذن يتغنى بعبارات تعظيم الخالق جل في علاه، لينقل إلى العالم كله أعظم نداء عرفته البشرية في تاريخها، لكن وضع معظم المؤذنين في بلادنا مؤسف جداً، كثير منهم لا يحسن التغني بالأذان، وآخرون لا يقيمون اللغة العربية وهم من العرب، ومنهم من هو من الأعاجم (ليست عنصرية وإنما لبيان عجمة اللسان ليس أكثر)، ومنهم من منّ الله عليه بصوت قبيح، يحمل في حنينه تنفيراً مما يقول ويردد من عبارات، ولو تخيلنا أن أحداً من غير المسلمين أو من غير العرب سمع صوت واحد من كبار السن الذين يصرخون بالأذان صراخاً عالياً، لا يبين حروفاً ولا كلمات فضلاً عن التلحين والتغني، لاشك أنه سيُصعق حين يعلم أن هذا الصراخ إنما هو شعار المسلمين ونداؤهم لعمود الدين الإسلامي! العجيب أن بعض القنوات الإعلامية لاتزال تصر –وبشكل يومي- على إذاعة أذان مسجل (من نوعية الصراخ العالي) لمؤذن رحل عن الدنيا رحمه الله تعالى، ولا أدري ما السر وراء إصرارهم على بث ذلك الأذان المسجل، وتركهم لأذان مؤذني الحرم المكي والحرم النبوي، وعلى رأسهم عمالقة الأذان في العالم الإسلامي، الشيخ فاروق حضراوي والشيخ علي الملا والشيخ نايف فيدة؟! ما نتمناه أن يعاد النظر في من يقوم حالياً بمهمة رفع الأذان في مساجدنا، والعمل على اختيار من يجمع بين الصوت والفقه والأداء، وألا تترك هذه الشعيرة عملاً لمن لا عمل له، أو لتحسين وضع البعض الآخر! بعض الأصدقاء وبعض القراء الكرام أرسل إليّ ينتقد عنوان المقالتين السابقتين، ويرى بعضهم أن مقولة «رمضان لا يجمعنا» تحمل في طياتها إيحاء بالفرقة وربما تحريضاً على تشتيت الصف ووحدة المجتمع، تلك الوحدة التي تلتئم في أكثر صورها في شهر رمضان، وأنني ضخّمت بعض الأشياء الخلافية اليسيرة، في حين كان يجب عليّ التركيز على ما يجمعنا وليس ما لا يجمعنا. وأنا إذ أقدر كثيراً هذه الرؤية وأحاول ألا أكون سبب فرقة، أجد أن المقالتين ليستا دعوة إلى الفرقة، أو تفريق الملتئم، بل إنني حاولت الإشارة إلى ما يكشفه شهر رمضان من خلافاتنا التي تنام تحت السطح ردحاً طويلاً من العام، ويأتي رمضان ليكشطه فإذا هو بادٍ لكل ذي نظر، وقضيتي الأولى ليست مع الخلافات ولا الاختلافات، إنما كم قلت الأسبوع الماضي، مع دوافع الاختلاف وتوابعه وزوابعه، من انتصار لمذهب أو لشخص، وتشنجات وعصبية وقذف المخالف بما لا يليق. وأن رمضان يجب أن يجمعنا على التسامح مع من نختلف معهم فكرياً ومذهبياً وليس اجتماعياً فقط. نختلف في رمضان على مسائل عديدة غير ما ذكرته في المقالتين السابقتين، فنحن نختلف على جواز الصلاة خلف إمام نراه فاسقاً، ونختلف حول جواز مجاوزة مسجد الحي إلى مسجد آخر طلباً لجمال الصوت والقراءة، نختلف على سنية صلاة التراويح وعدد ركعاتها، وعلى مشروعية التهجد جماعة في المساجد، نختلف ونكاد نقتتل حول مكبرات الصوت في المساجد وبخاصة في صلاة الليل، نختلف في جواز تركيب أجهزة الصدى في مكبرات المساجد!! ومع ذلك كله يجب أن يظل «رمضان يجمعنا»!! عشر مباركات.