قرعٌ قويٌ على طبلة من الفخار، يهزّ سطحها الأملس المصنوع من جلد الماعز، كلمات صادحة بالشامية العامية، «اصحى يا نايم وحد الدايم، رمضان كريم، وحّد الله ...». تكاد تكون مهنة المسحراتي أو «أبو طبلة» كما يطلق عليه العوام، من مميزات الشهر المبارك في العاصمة السورية، لأن الفوانيس الملونة لم تطرق باب الشعبية، كما لم تنتشر الزينة المضيئة والهلال المشع الكهربائي على واجهات بيوت المدينة إلا لفترة بسيطة، فيما ينتشر في هذا الشهر خبز رقيق من نوع خاص اسمه «الناعم»، يوازي شهرة «المسحراتي»، إلى جانب شراب السوس، ويغيب «الناعم مع الدبس» أو ما يسمى خبز الفقراء عن مظاهر شهر الصيام في المحافظات السورية الأخرى، ليبقى «المسحر» أحد أعرق الأشكال للشهر. بزيه التقليدي الدمشقي يتجول المسحراتي نحو الساعة الثانية والنصف ليلاً، مدة تصل إلى الساعة أو الساعة والنصف قاطعاً مسافة ، لا بأس بها، لتذكير الناس بوقت السحور، في حين تطورت كل تقنيات الإيقاظ الذاتي، ليكون أحدثها إنشاء صفحة لمسحر رمضان على الشبكة الاجتماعية «فايس بوك»؛ إلا أن مُسحراتيي الصائمين في دمشق، مازالوا موجودين و لم يغيروا عادتهم كل عام، في مؤازرة من يسهى عن موعد ابتهال الليل، ومن ثم الذهاب إلى المسجد. أبو عمار مسحراتي الجهة الغربية من منطقة الميدان، إحدى أكثر المناطق شعبية في دمشق، لمدة تزيد على الثلاثين سنة، ويتشارك وحوالى خمسة من المسحرين الآخرين عملاً أقرب إلى الهواية. أبو عمار بات معروفاً في حي السيدة عائشة كمسحراتي، ويبقى فضول الأطفال الذين لا يعرفونه دافعاً ملحاً لكشف هوية صاحب الصوت الأجش ليلاً، فيخرجون متلصصين لرؤيته من نوافذ وأبواب منازلهم. «مهنة الأجداد، فمن جدي إلى أبي، عملنا بها، ومن ثم سأنقلها إلى ابني»: يقول المسحر أبو عمار ل «الحياة»، رافضاً النوم خلال شهر رمضان لإيقاظ غيره من النائمين، مستخدماً جملاً تحتاج إلى «صوت مرتفع وأنفاس عميقة». ينبغي على كل مسحراتي أن يتمتع بنفس الميزة، بحسب أبو عمار، ليصل صوته إلى عمق البيوت، مترافقاً بطنين طبلة صغيرة قادرة على أن توقظ أي شخص. ويرى أبو عمار أن مهنته تحتاج بنية قوية، موضحاً أن السير مسافة طويلة بين الحارات الشعبية الضيقة مع النداء على غالبية أصحاب المنازل، يلزمه «قدرة على تحمل ضغط نهار شاق في عمله الأساسي، وعدم نومه في الليل، ما يضاعف العبء عليه». يَِِعرف المسحراتيون في دمشق بعضهم بعضاً، ولكل حي أو عدة أحياء مسحّر خاص بها، ولا يمكن أن يتعدى مسحّراتي على منطقة مسحّراتي آخر إلا في حالات الضرورة يُطلب منه فيها مساعدته. ولا يخفي أبو عمار خشيته من قرار رسمي من البلديات أو محافظة دمشق يمنع المسحّراتي من العمل بناء على تطور أدوات التنبيه «الموبايل، الساعة...». ويلفت أبو عمار إلى أن غالبية الناس لا تنام في شهر رمضان مع انصرافها إلى جلسات عائلية أو متابعة المسلسلات أو العبادة. يقول : «نرى الناس متيقظين حينما نجول في الشوارع ليلاً»، ويضحك أبو عمار عندما نسأله عن دخلاء على هذه المهنة، : «مهنتي لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى يدخلها جدد». لا تتوقف مهنة المسحراتي حتى في أشد أيام رمضان برداً أو حراً ، كما أن إنارة الشوارع حديثاً أغنت عن الاستعانة بأنيس له «أحمل مصباحاً بقربي، ليسهل علي الحركة». أما أجر المسحراتي فيعطى أثناء جولة له على الناس في اليوم الأول من العيد، أو في آخر سحور من الشهر. والنقود ليست وحدها الجزاء المتوقع، فأحياناً يبادر الناس بإعطائه قطع الحلوى، بدلاً من المال. وكان المسحر يحمل دلواً وسلة قش، السلة للطعام الجاف، والدلو للسائل، ويختم أبو عمار «متعة إيقاظ المؤمن لا تعادلها أي قيمة أو أجر إلا ثواب الله».