بادر الرجال أو»الذكور» حتى أكون أكثر دقة إلى سن قوانين المجتمع منذ العصور الإنسانية الأولى، متولين دفة القيادة ومتقلدين مهمة الحماية والذود عن أسرهم وجماعاتهم، وهي قد تكون فطرة ولدت معهم منذ نعومة أظفارهم، فكانت القوانين والسنن الاجتماعية لا تخلو من نكهة ذكورية بغض النظر عن حدة هذه النكهة أو خفتها. إن المُطَّلِع على تاريخ الشعوب يلحظ بالبداهة سيطرة الذكور على المجتمع، فبدأت تنمو منذ ذلك الزمن جذور التصنيف الطبقي الجنسي والعرقي، فبدأ الذكر الأبيض يضع نفسه في مرتبة أعلى من الذكر الأسود لتصل الطبقية إلى أقصى درجاتها متمثلة في الرق والاستعباد، من جهة أخرى وضع الذكر نفسه في مرتبة تفوق مرتبة الأنثى، ومن هذين التصنيفين بالإضافة إلى تصنيفات وقوانين أخرى كانت «ولا تزال» القوانين الاجتماعية. أذكر أنّي قبل عامين أو أكثر بقليل شاهدت فيلما سينمائيا أمريكيا يروي أحداثا درامية وقعت في أوروبا في العصور الوسطى «عصور الظلام كما يصطلح البعض»، كانت قصة الفيلم تدور حول المجتمع «الذكوري» الذي كان سائدا في تلك الحقبة من الزمن، بكل تفاصيله، ما كان لافتا بالنسبة لي، اعتبار التعليم بالنسبة للنساء جريمة يعاقب عليها القانون، فكان التعليم حِكرا على الرجال، بينما تكتفي المرأة بالاعتناء بالمنزل وشؤونه، والاهتمام بمظهرها فقط، كونه يمثل قيمتها الاجتماعية من وجهة نظر ذكور تلك الحقبة «على أني لا أعتقد أننا وإلى وقتنا الحالي بعيدين كثيراً عن هذا الفكر». من اللافت أيضا في هذا الفيلم، أن النساء الوحيدات اللّاتي يحسِنَّ القراءة والكتابة وإلقاء الشعر هن الغانيات «المومسات» مما يؤكِّد ويثبت نظرية سيطرة الفكر الذكوري على المجتمع حينها، فلا يخفى على أي عاقل المتعة في الاستماع إلى شعر جميل يُلقى من امرأة فاتنة، شرط ألا تكون هذه الفاتنة هي الزوجة بطبيعة الحال! كون الشعر والعلم يفسد أخلاق النساء من منظور ذكور ذلك الزمن! أما في عصرنا الحالي فلقد تقنّعت الهيمنة الذكورية بقناع مغاير للأزمان السابقة خصوصا في المجتمعات الإسلامية، وبما أن الإسلام ومنذ بداية الدعوة، قد ساوى بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات، وحث على العلم بدون تخصيص لجنس دون آخر، وكانت الصحابيات رضوان الله عليهن في صدر الإسلام مثالا يشار إليه بالبنان على جميع الأصعدة، فكن في المقدمة والرائدات في الحرب والسِلم، وقد شملت الكيفيات التي تحملت بها الصحابيات الحديث النبوي طرق التحمل المختلفة، ولم تخرج عن طرق تحمل الصحابة رضوان الله عليهم، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على أنه لم يكن هناك فرق بين الرجال والنساء في طلب العلم في العهد النبوي الشريف، لكن هيهات! هيهات! فقد بقيت بعض النفوس عصية على تهذيب الإسلام، فبقيت هذه النعرة الذكورية مسيطرة، بدس الأهواء تحت مظلة «العرف» وخلطها بالشرع، دون أن يغفلوا عن إعطاء «العرف» قيمة عالية أقنعوا بها المجتمع بطرق عدة لا يتسع المجال لذكرها، كما لا ننسى دور الكثير من المشايخ الذين يمتهنون وباحتراف دور تخويف وترهيب المجتمع من كل ما يمس المرأة، وتصويرها كفتنة متحركة، ليصل الذكاء والدهاء إلى تجنيد النساء للدفاع عن هذه الأعراف الذكورية! فتجد الكثير من الداعيات قد تتحدث وبكل قناعة عن ضرورة الالتزام بالعرف وأنه الحامي والذاب عن حمى النساء والمجتمع، ولا يخفى على السعوديين تحديدا ضيق دائرة العرف مقارنة بالشرع! فكل يوم تطل علينا قضية جديدة، من محاربة كشف الوجه، إلى محاربة قيادة المرأة (وهي قضايا اجتهادية خلافية، ليست مما يقدح بالعقيدة، أو يقلل من عدالة الإنسان المسلم)، إلى الاستنقاص من النساء الممارسات للرياضة ووصمهن بأسوأ النعوت «أذكر أن أحد المشايخ قد صرّح في وقت سابق بأنّ النساء الرياضيات لا يستحقون الاحترام»، إلى قطع أرزاق النساء العاملات سداً للذرائع ومنعاً للفتنة والكثير الكثير من شاكلة هذه القصص وعلى منوالها، والتأكيد على ربط هذه «الموبقات الاجتماعية» بالعفة والتقوى والضغط على المجتمع من هذا الباب مستغلين تعلق الناس بهذه الفضائل! فمن معرفتي بمجتمعي الفاضل المحب للدين والتدين، أن الطعن في الأخلاق والشرف أو التوعد بسوء الخاتمة والتخليد في النار هو من أنجع الطرق لتسيير القطيع! مغفلين حقيقة وعي الناس وقدرتهم على التمييز بين الصواب والخطأ وعليه فإن من يخالف هذه الشروط الضيقة غير العملية أو من لا ينتمي إلى القطيع المسير باتجاه واحد فهو وللأسف من غير العفيفين أو المتقين وعليه فهو من الخارجين من دائرة المرضي عنهم! لكن هل للعفة والتقوى ارتباط بهذه المحاذير حقا؟ هل ممارسة الرياضة ومزاولة العمل والتعفف عن الحاجة للناس مما يخل بالشرف؟ أم أن الهدف من كل هذا التضييق صنع شخصية نسائية مثالية أو بالأصح «إمعة مثالية»؟