مشهورة وكبيرة كانت الضجة التي أثيرت حول مسلسل عمر بن الخطاب بقصد منع عرضه أو على الأقل صد الناس عن مشاهدته لكنه حقق إقبالا جماهيريا واسعا. فقد سجلت الحلقة الأولى منه مليونا وثلاثمائة ألف مشاهدة، مقابل نصف هذا العدد للحلقة الأولى من البرنامج الخفيف «واي- فاي» وحوالي نصف مليون لعمل يحرض على مقاطعة المسلسل بعنوان «من أجل هذا نرفض مسلسل عمر بن الخطاب»، والإحصاءات جميعها من موقع اليوتيوب يوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك. الإقبال الواسع الذي لمسته من قبل الكثيرين قبل أن تخبرني به الإحصائيات لافت، إذا ما وضعنا في الأذهان حجم وحدّة الحملة المضادة التي شارك بها مشايخ ودعاة وحتى كتاب بعيدون في المظهر واللغة عن السمت المشيخي. في هذا المقال، أحاول أن أشرح تفوق المسلسل على دعوات المقاطعة بوصفها أحد تجليات اكتساح الفن السابع لروح الإنسان المعاصر وتفوق ذلك الفن على الكلمة مكتوبة أو منطوقة، فسيرة عمر المقدمة عبر مشاهد ووقائع تكتسح سيرته المقدمة عبر السرد اللغوي وحده. بحسب مقالة في ويكبيديا، فإن المقصود بالفن السابع «فن استخدام الصوت والصورة سوية من أجل إعادة بناء الأحداث على شريط خلوي». و أطلق الناقد السينمائي كانودو على السينما الفن السابع «لأن العمارة والموسيقى، وهما أعظم الفنون، مع مكملاتهما من فنون الرسم والنحت والشعر والرقص، قد كوّنوا حتى الآن الكورال سداسي الإيقاع، للحلم الجمالي على مرّ العصور…ويرى كانودو أن السينما تجمل وتضم وتجمع تلك الفنون الستّة» (وكيبيديا). ونلاحظ أن ظاهرة المسلسلات التاريخية الكبرى والطارئة مؤخراً (كمسلسلي عمر بن الخطاب والقعقاع بن عمر) صارت تعمل على نسق الأعمال السينمائية الضخمة والمكلفة من الناحية الفنية الصرفة، ولا يجمعها مع المسلسلات كما نعرفها إلا كونها تعرض في حلقات تلفزيونية فقط. و يتبين الفارق لهذه النوعية من الأعمال، حين نقارن مسلسل عمر بن الخطاب، من الناحية تقنيات التصوير والإخراج والمشاهد، بمسلسل تاريخي شهير آخر هو مسلسل عمر بن عبدالعزيز، الذي كان حقا عملا تلفزيونيا خالصاً و مجردا من أي مسحة سينمائية. وعن السينما وسلطتها في العصر الحديث، ألف الناقد السينمائي سليمان الحقيوي كتابا جاء فيه «لقد وجدنا أنفسنا طوال عقود خلت أهدافا لهجوم شرس، تشارك فيه وسائط إعلامية مختلفة تتراوح بين المكتوب والمرئي والمسموع، مُشكِّلةً حلقة وثيقة، تحكم الحصار من حولنا باعتبارها قنوات ضخمة لتمرير المعلومة، وإذا كانت وسائل الاتصال هاته، قد تعددت وتطورت إلى حد كبير، فإن السينما تحظى بمكانة متميزة بينها، فهي تختزل مجموعة من الوسائل في الآن نفسه، حيث توظف مختلف الفنون الأخرى من رسم وموسيقى ورواية ومسرح، مما يجعلها تتفوق على باقي الوسائل الأخرى، فقد قطع التعبير بواسطة الصورة أشواطا كبيرة من التقدم، حيث قفزت خطوات هائلة خالقة مسافة، شكلا ومضمونا، مع المنجز السابق، جعل السينما تعتلي هرم الفنون، و تسلب المتلقي إرادته وتشكل منافسا حقيقيا يفرض نفسه في بعض الحالات بديلا للمسرح منازعا إياه أبوته للفنون، وإذا أردنا أن نعقد مقارنة بسيطة بين عدد قراء الكتب وعشاق المسرح، وبين رواد السينما لوجدنا البون شاسعا، فالسينما هي المنبع الوحيد الذي يستمد منه عدد كبير من الشباب ثقافتهم في سنوات حياتهم الطويلة، التي لا تنقطع بانقطاعهم عن الدراسة، فهي لا تضع شروطا أو حواجز لولوج عوالمها». ويبدع بشير القمري حين يصف الفعل السينمائي باعتباره كتابة فيقول «الكتابة السينمائية لها بناء ونحو وتركيب وأسلوبية وبلاغة وتلفظ، وفي هذا تقترب هذه الكتابة، من خلال نظامها اللغوي التعبيري وسائر أنظمتها الإشارية، من اللغة الشعرية، خاصة على مستوى تمفصل الصورة بالمعنى البياني والبلاغي على أساس التمييز، في الوصف والتحليل والقراءة النقدية أو المقاربة التفكيكية لمتواليات الفيلم ومقاطعه ووحداته، بين الصورة بالمعنى الحرفي والصورة بالمعنى المجازي وحينئذ قد تتحول بعض الصور أو اللقطات إلى مجازات واستعارات وكنايات كالتي نجدها في الشعر واللغة أصلا». ويعني القمري بالكتابة السينمائية النص الذي نراه ونسمعه ونحسه ممثلا أمامنا. وحين التأمل في واقعة الإقبال الكبير على مسلسل عمر بن الخطاب برغم كل العنف اللفظي المضاد والتحريض على المقاطعة، فإنه يمكن للمرء أن يخلص إلى تغلب سردية الفن السابع المكتنز بالأدوات التعبيرية لماضينا المقدس الذي يسكن وجداناتنا ويشكل مهجنا على سردية الكلام وحده، سواء تُلقي هذا الكلام مقروءًا أو مسموعاً. ولا يجب أن يجيّر كل هذا الكلام النظري في حق الفن السابع لصالح المسلسل مباشرة. فالمسلسل وبرغم البراعة الفنية في مسائل التمثيل والتصوير والإخراج والملابس والمشاهد والثراء اللغوي المبهر الذي صكه يراع المبدع وليد سيف، إلا أنه سجل ضعفا غير متوقع في اختيار بعض الشخصيات، فأبو بكر الصديق أُظهر بأكبر من سنه (في الحادية والأربعين وقت شيوع الإسلام في مكة) فيما صُغّرت سن عمار بن ياسر، وهو أسن من أبي بكر وتم تقديم شخصية عمر قبل إسلامه بعكس الصورة التي وصلتنا عنه، ولست أدري من أين أتت روايات انتقاد عمر لعرض قريش على أبي طالب تسليم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، إذ لا يُتصور أن عمر يفكر قبل إسلامه بهذه الطريقة. كما فشل المسلسل في إظهار عمق المعاناة الإنسانية في بعض المواقف الصعبة، مثل غزوة الخندق. لكن وفي كل الأحوال، الإقبال على المسلسل يظهر كم أصبحنا في عصر الصورة وأبعدنا عن الكلام، الذي يمثل الشعر ذروته التعبيرية. السينما، إذن، هي ديواننا المعاصر.