اليوم عندنا في العراق مشكلة كبيرة اسمها المالكي، لا يمكن أن نتجاهلها أو نتخطاها عندما نريد أن نتحدث عن مشكلات العراق، وقبل إيجاد حل لأي مشكلة من مشكلاته «المتلتلة» التي يعاني منها، يجب أن نعالج هذه المشكلة الأساسية التي تتفرع منها كل المشكلات الأخرى، وكما كان صدام حسين يعدّ مشكلة المشكلات و«جلاب» المصائب للعراق، انسحب تأثيره المدمر على جميع المرافق الحيوية للبلاد، وأسهم بصورة مباشرة في تدميرها، ولم يتحرر العراق واتجه صوب الديمقراطية وانفتح على العالم الخارجي إلا من بعد أن أزيل وقضي عليه تماماً، وبمجرد أن سقط وتهاوت معه كل مؤسساته القمعية بغمضة عين، يحاول اليوم «المالكي» أن يعيد نفس دوره ويتقمص شخصيته المدمرة بنفس العزيمة والإصرار، وكنا نعتقد أن العراق لن يعود أبداً إلى سياسة التفرد والحزب الواحد والقائد الضرورة بهذه السرعة، ولكن توقعات المراقبين ومجريات الأحداث اليومية وسياسة الحكومة المعلنة ومخاوف الأحزاب والكتل السياسية العراقية وتحذيراتهم المتكررة، أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن البلد يسير بخطى حثيثة نحو هذا الهدف، وإن لم يعترض العراقيون مسيره ويحولوا دون تقدمه الجنوني، فسوف يكون لنا في غضون سنوات قليلة نظام دكتاتوري ثيوقراطي طائفي لا يقل خطورة عن نظام صدام إن لم يزد عليه بمراحل، وسيقوده حزب قائد «حزب الدعوة» صورة طبق الأصل من حزب البعث، ورجل عروبي شيعي صنديد، على شاكلة «صدام» يستلهم تاريخ زعماء العرب العظام في عصر الجاهلية وبطولاتهم وسيرة الأئمة الأطهار في عصر الإسلام وهو «نوري المالكي»، وما إن يتصدى لهذه المهمة التاريخية النبيلة، حتى تسير وراءه الجماهير الإسلامية العربية الغفيرة وتلهج باسمه من أقصى بلاد العروبة إلى أقصى بلاد العجم. هكذا تكون صورة العراق القادمة أو ما يحاول الرجل الوصول إليها، وأول خطوة لتنفيذ مشروعه التوسعي الخطير هي رفض السياسة اللامركزية ونظام الأقاليم الذي بني على أساسه العراق «الاتحادي الجديد» رفضاً تاماً خلافاً للدستور الذي يقرر أن العراق بلد فدرالي مكون من أقاليم شبه مستقلة وتقوية الحكومة المركزية وبسط سلطتها الواسعة على جميع الأراضي العراقية كما كانت في السابق وحصر السلطات الأساسية والقرارات المصيرية جميعاً في يد المالكي، فهو الآن «رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس المخابرات والأمن العام ومهيمن تماماً على البنوك والمؤسسات الإعلامية والهيئات القضائية وغيرها من المناصب الحساسة.. ولا سلطة تفوق سلطته ولا حتى البرلمان»، ومن أجل أن تنجح خطته وتؤدي أهدافها على أكمل وجه، فلا ضير أن يثير بين فترة وأخرى أزمة وأزمات في البلاد هنا وهناك لصرف أنظار العراقيين عن أهدافه الأساسية، لذلك ليس مستغرباً أن يدشن الرجل ولايته الأولى والثانية بسلسلة من الأزمات والمشكلات من أولى صولاته «الفرسانية» الدموية على أنصار زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر «عام 2005» ومروراً ب «جدلياته» السياسية العقيمة مع رئيس القائمة العراقية «إياد علاوي» ومطارداته «البوليسية» لنائب الرئيس الجمهوري «طارق الهاشمي»، وانتهاء بأزماته الحالية مع إقليم كردستان ورئيسه مسعود بارزاني «الحليف الاستراتيجي» القوي لكتلته لفترة من الزمن، وفيما يبدو أن الرجل قد استمرأ الفكرة وبدأ بالإعداد لهذه المرحلة فعلاً وبتخطيط دقيق وعناية فائقة مع دهاقنة حزب الدعوة والمساندين له من الأصدقاء والحلفاء، وبشكل علني ومكشوف، ودون لف أو دوران أو خشية من أحد، فقد صرح الرجل أكثر من مرة أنه ضد الفدرالية وإقامة الأقاليم «لأنها تؤدي إلى الانفصال» العبارة الممجوجة التي كان النظام السابق يكررها دائماً على مسامع العراقيين ويخوفهم منها دون أن يكون لها أصل في الواقع، وقد استعملها ضد الأكراد ونعتهم بالانفصاليين من أجل تأجيج الرأي العام العراقي والعربي عليهم وإدامة عجلة الحرب الشعواء ضدهم، مع أن الأيام قد أثبتت أنهم ليسوا انفصاليين بل عراقيين ضمن بلد واحد موحد يحكمه نظام فدرالي ديمقراطي تعددي، وعلى هذا الأساس قبلوا العودة إلى الدولة العراقية ثانية بعد أن انفصلوا عنها لمدة تقارب العشرين عاماً (من 1991 عند انسحاب الحكومة المركزية من الإقليم إلى 2003)، ويبدو أن شرط الأكراد هذا قد شكل تحدياً جدياً لطموحات المالكي السياسية، لذلك قرر أن يواجههم ولكن بعد أن ينتهي من القائمة العراقية. وما إن أراد له ذلك واستطاع أن يقلل من خطر الكتلة «السنية» إلى حد بعيد، التفت إلى «إقليم كردستان» الأنموذج الحضاري الحي الذي يمثل بتطوره الاجتماعي والثقافي والتجاري وأوضاعه الأمنية المستقرة وانفتاحه السياسي على العالم تحدياً حقيقياً لطموحاته السياسية التوسعية، وعائقاً كبيراً في تحقيق أحلامه «الطائفية»، لذلك عليه أن يواجه الأكراد ويحد من خطرهم أولاً قبل أن يهيأ نفسه لولاية ثالثة ورابعة.. وعاشرة ويحكم العراق بالحديد والنار، كما في السابق أو أخطر.