في مكتبتي كتاب باللغة الألمانية للجراح الفرنسي المشهور (ليريش) بعنوان الجراحات الكبرى ( Die grosse Chirurgie). كتب هذا الرجل المشهور ذكرياته على نحو أمين منها اجتماعه بالجراح الألماني (ساوربروخSauerbruch ) الذي كان من طوَّر جراحة الصدر، وحل مشكلة الضغط السلبي في محيط الصدر الداخلي، كما روى إعجابه بالأتراك، وخلَّد في كتابه ذلك التناذر (المتلازمة) التي أخذت اسمه (تناذر ليريش Leriche Syndrom) سجلها من ملاحظاته عن المرضى المصابين بقصور التروية الدموية في الطرفين السفليين، بسبب انسداد شرايين البطن الرئيسية خاصة حنفية الدم الكبيرة الأورطا (الأبهر) أو الوتين كما جاء في محكم التنزيل (ثم لقطعنا منه الوتين)، حيث يبدو على المريض مايعرف بالعرج المتقطع (Claudication) أو التحديق المتناوب في واجهات المحلات بسبب ألم الربلة (بطة الرجل) فيتوقف بين حين وآخر متفرجا لاهيا عن وجع ساقه. كله بسبب عدم وصول الكفاية من الدم للأطراف السفلية. قلت في نفسي بعد أن اجتمعت بأخي المفرح من مؤسسة العبيكان إنها مناسبة لنشر تجاربي في الجراحة لأكثر من ثلاثين عاما؛ فقد رأيت فيها من عجائب الطب وغرائب الجراحة الكثير الكثير. وأنا رجل أسعى لتوثيق ما أرى في الوقائع الميدانية وحوادث الطرقات وكوارث الإسعاف ومصائب الطوارئ وتحديات العمليات ودواهي العناية المركزة، خاصة حين يكون الجراح يعمل بيدين من مبضع وقلم؛ فيرقئ النزف ويسيل المداد الأسود من الريشة أفكارا. عملت خلال العقود الثلاثة في أكثر من عشر مراكز بين ألمانيا والسعودية تنقلت في ألمانيا بين ست مدن (زيلب أولدنبورج فولفسبورج فيلهلمسهافن جيلزنكيرشن وأخيرا في مدينة باينه قريبا من هانوفر أشهر مدينة في ألمانيا بفصحى الخطاب يسمونها الألمانية العالية Hoch deutsch)). دخلت السعودية عام 1983 م في جو حار لم أصدقه وكان ذلك في الدمام حيث تجتمع الرطوبة مع الحر فكأنك في حمام تركي ساونا (Sauna). بعد الدمام انتقلت إلى جبال عسير خمس سنين وكانت من أجمل لحظات عمري وعملي بين قوم أحببتهم وأحبوني، تفتحت فيها قريحتي وشهيتي للعمل وبدأت بتصوير وتوثيق الحالات مقابل أكثر من 600 عملية في الشرقية لم أسجل فيها إلا نادرا من الصور. ومنذ زمن عسير أجمع الصور للحالات النادرة فأصبحت كنزا من أربع مجلدات خالدات. ثم عكفت 18 عشرة عاما في حراء القصيم معتكفا راهبا للعلم وخدمة المرضى وفيها أنجزت أفضل عملياتي وأعمالي ومنها دخلت عالم الصحافة فاجتزت حاجز المكان إلى التاريخ. إن خلق وعادة التوثيق هامة جدا للتاريخ والذاكرة، وإلا فلن يزيد عمل الإنسان وعمره عن حلقة دخان. يقول تعالى «إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين».