كنت في مشفى مارين في مدينة (جيلزنكيرشن) الألمانية أثناء التخصص في جراحة الأوعية الدموية ومعي طبيب يتقدمني يوغسلافي لازلت أذكره جيدا، فأتتنا حالة أم دم أبهرية (انتفاخ شريان البطن الكبير) ولأن المريض كان نحيفا والورم واضحا فقد أغرى هذا صديقي بالدخول السريع وعزل الورم، ولكن المشكلة في هذا المكان أن ورم شريان الأبهر بجنبه وريد رقيق ضخم جدا هوالوريد الأجوف السفلي باللغة العربية، فقد استخف بالحركة فهتك الوريد الرقيق وانطلق الدم الهائل في المكان. لا زلت أذكره وقد تدلى فكه السفلي فكاد أن ينخلع! قلت له: نحن بالأصل في ورطة وإذا دخلت حالة الرعب دخلنا في ورطة إضافية فعجزنا عن حل المشكلة. لا تستبد بك اللحظة! رجع إلى نفسه وقال صدقت، ولكن ماذا نفعل مع الوريد؟ قلت له وكانت الحالة الأولى التي تمر علي حسبما قرأت فهناك أنابيب من الشرايين الصناعية يمكن أن توضع مكان الأوردة المصابة. استبشر صاحبي، وفعلا هرعنا إلى خزانة الشرايين الصناعية فعثرنا بسرعة على الحجم المطلوب أظن كان في حدود 24 مليمتر قطرا. قام الجراح اليوغسلافي بزراعة القطعة المصابة من الوريد المصاب وكمل شغله في استئصال انتفاخ الشريان (أم الدم الأنورزما)ينقل عن الفيلسوف إقبال فقرتان: شعرة تحجب الرؤية. وغفلة لحظة تكلف زيادة المسير ألف ميل (لحظة إن تغفل يا صاحبي ألف ميل زاد بعد المنزل). أذكر هذا جيدا من الطرقات السريعة في ألمانيا فقد كلفني يوما أن أتابع طريقي للمفرق التالي في حوالى خمسين كيلومترا قبل أن أعود أدراجي. أذكر جيدا تلك اللحظة العصيبة وأنا أتحدث مع أبو عبدالرحمن في المشفى حين قلت له: لا تستبد بك اللحظة. صمت وقال: صدقت. تابعت: فهناك ما قبلها وما بعدها. قال: صدقت مرة أخرى. تابعت أنا: وإن مع العسر يسرين. قال إنه لحق اليقين. نحن رحالة في الزمن المتدفق فلنتأمل العالم، فالحياة أحيانا كوميديا أكثر من كونها تراجيديا. ولكن أعصابنا تنهار أحيانا ونخاف وهو أمر طبيعي وعادي عند كل بني البشر. المهم هو عدم استيلاء المشاعر السلبية فتطوق الإنسان في ظلمات اليأس. بل عليه أن يقول إنها لحظة صعبة نتضرع فيها بالدعاء لخالق الوجود والأحداث ومالك الخلائق والمصائر وإليه يرجع الأمر كله أن يمدنا بصبر ونصر وفتح قريب. أنا شخصيا وأظن الكثير منا مرت عليه هذه اللحظات المفزعات المدمرات أحيانا. وفي كل لقاء مع شخص أحبه وأبني علاقة معه أسأله هذا السؤال أي لحظة كانت الأصعب في حياتك فأتلقى إجابات شتى منها النفسي ومنها البدني ومنها المالي ومنها العائلي وهكذا. لنتعلم إذن أن الإنسان يؤوس كفور، ولكنه توَّاب منيب يسارع في الخيرات.