الرؤوس متحلقة حول التلفاز.. الصالة تزدحم بأفراد العائلة..وجوه تتبادل السؤال..«غدا رمضان؟ » .. «ربما..أظنه سيكون الغد..العام الفائت كان الثلاثين متمماً لشعبان»..صوتٌ ثالث..«لن ننتظر تحري الهلال..المراصد الفلكية تقول إن غداً رمضان..هكذا تقول الصحف»..يصل الأخ الأكبر..يقبّل رأسها وهو يضع أكياساً تنبجس منها معلبات كثيرة «شهر مبارك أمي..ينعاد عليك وعلينا بالخير والسلامة»..يصرخ الجميع بين مكذّب ومصدق..ويعلو صوت إحداهن «التليفزيون لم يعلن عن ذلك بعد..ما زالت برامج شعبان تبث كالعادة»..«سمعته في الراديو»..هكذا يأتي الجواب الذي لا يهتم بسماعه أحد..تتحول شاشة القنوات بسرعة إلى نقل صلاة التراويح..والشريط الأسفل يمر خفيفاً وحاراً بالتهاني..في بيت ثانٍ يلتقي الجميع في منزل الجدة وأصوات الأطفال تتراكض في الهواء..بكره رمضان..جاء رمضان..طفل صغير يسأل والده الذي يتوضأ ذاهباً لصلاة العشاء «فين رمضان؟»..تجيب الفوانيس..ورائحة التمر المخلوط بالسمن والسمسم..وصوت السديس وهو يفتتح القراءة بسورة البقرة..تنتشر البهجة..ويتجه كل فرد للبدء في شيء..الأم وهي تضع على رأسها العباءة لتهنئ جارتها وأمها التي تسكن قريباً منهم..الأخوات يتقاسمن المهمة الصعبة في الطبخ والتنظيف وتبخير الماء ب«المستكا»..أولاد الجيران يملؤون الشوارع وأرصفة الحي باللعب وبقليل من المفرقعات المهربة.. فرحة ما تتسلسل بخفة بين القلوب.. هو يوم كباقي الأيام في التقويم الهجري..أربع وعشرون ساعة..يبدأ بالشروق وينتهي غروباً..ما السر في كل هذه الفرحة الكبيرة التي ينشق عنها الصدر؟..الهموم تنزاح..تتساقط من الأكتاف دون أن يراها أحد..المشكلات تبدو صغيرة وقابلة للحل..الضغائن تتحول إلى رغبة في السماح والسلام..يرنّ الجوال..تصل رسالة..وثانية..وعاشرة. المنتديات الإلكترونية تغير ثوبها..تصبغه مرة بالأسود وتنصب في زاويته العليا فوانيساً وألعابا نارية وتتوسطه آية البقرة « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس»..في ذات الوقت تصدح بها أصوات المايكروفونات لأئمة المساجد وهم يشرعون في صلاة التراويح…تتسامى..تعلو قليلاً وهي تأخذ معها أثقال الروح..تعلو أكثر..تبدو وكأنها تتجه إلى السماء..أو كأنها على موعد مع الهلال الذي لا يراه إلا القلة.. لا يكاد البيت يهدأ.. لا أحد يجلس لوحده..وتتحول آخر ليلة في شعبان إلى مطل عالٍ على مروج خضراء وفسيحة..وأنهار متلألئة..لا طبعاً..رمضان يبدو أجمل من ذلك بكثير.. في مخيلة كل منا له شكل ولون ورائحة ومذاق تختلف عن الآخر..حتى لو كان ذلك الآخر أخاه..الروحانية ذاتها..والشعور بالتحرر..الإحساس بالخفة..ورغبة في القرب..في القرب من ماذا؟ من الله..من السمو.. من الذات المهجورة..تلك القريبة المغيبة.. القرب من الأهل والأحبة والأصدقاء.. القرب من الحياة الحقيقية التي استبدلناها بحيوات افتراضية. نقول فيها «صباح الخير لكل المفسبكين»..ولا نفكر في أن نتشافه بها مع جار يشاركنا نفس الجدار.. حياة تقتات على رصيد بعشرين ريالاً..أكثر أو أقل..حسب إحساس صاحبها بالعزلة والضياع..حياة واحدة بأسماء متعددة: الوتس أب، الفايبر، اللاين، التانقو..الإيميل والمنتدى وقوقل أو تويتر.. في غضون ساعة تكون قد أرسلت تهنئة لكل من تعرف ومن نسيت أو نسوك..أحيانا تكون عاجزاً حتى عن المكالمة..!. مع رمضان..نحن نتمسك بالذاكرة..نتنفس منها..نستدل بآثارها على رمضاناتنا الأولى..نميل إلى القديم ونقيس عليه حاضرنا..اليوتيوب يمتلئ بروابط تحمل عناوين مستثيرة للذاكرة: فوازير رمضان زمان، أشعب..جحا..الطنطاوي على مائدة الإفطار وأغنية محمود الإدريسي «سألتك لله»..ويقبل على مشاهدتها وتحميلها المئات والآلاف..لأن رمضان مرتبط بالذاكرة..كل ملموس أو محسوس في رمضان يصبح في خانة الجميل والمهم واللا يُنسى.. هو قيمة جمالية متراكمة..ولذلك فهو حين يأتي يحمل معه قادما من بعيد كل أفراحنا الأولى فيه..كل ضحكاتنا..كل أمانينا البيضاء..كل تصوراتنا اللطيفة والطاهرة عن الأرض والحياة والإنسان..يأتي معه بصورنا الأولى وبقدرتنا الجنونية آنذاك على الفرح..رمضان كان رسالة كهربائية مشفرة للتواصل والألفة..أذكر أن الأبواب كانت مفتوحة طيلة ليالي رمضان لأن نسوة القرية يعبرن منها وخلالها إلى البيوت التي يرغبن في زيارتها..بدلاً من الطرق الرسمية التي تطول وتأخر الوصول!..وكانت الأمهات تعمدن إلى تجزيء وجبة الإفطار..جزء للجيران..آخر للجدة أو الخالة أو أي قريب..وأحيانا حتى للخياطين وأصحاب الدكاكين مسلماً كان أم غير مسلم.بعد صلاة العشاء والتراويح..تبدأ النسوة في تفعيل حقيقي لصلة الرحم..وكانت المرأة تزور بيتين أو ثلاثة في ليلة واحدة..وفي حال أنها لم تجد صاحبة البيت (لأنها هي الأخرى «ترمّض» ) فقد جرت العادة أن تضع عند باب بيتها ما يدل على أنها قد جاءت فعلاً للزيارة..تضع ريحانا في النافذة مثلاً..أو تقلب السجادة المفروشة عند مدخل الدار..أو تأخذ شيئاً وجدته عند باب المنزل!..أو أي «أمارية» تدلل بها على حضورها تلك الليلة.. روحانية رمضان عبقة جداً في تفاصيل الذاكرة، تحركها وتستثير كوامنها رائحة النّار والدخان المنبعث من تنانير البيت.. صوت مؤذن الحي الذي ألفنا الاصطفاف خلفه..الفوانيس المعلّقة في أسقف البيوت ومداخلها..البرامج التليفزيزنية القديمة التي نصرّ دائماً أنها الأجمل والأصدق فقط لأنها بقعة منيرة في ذكرياتنا..هي جزء منا أو هي بالأحرى نحن تماماً. رمضان عند كبار السن حكاية..حكاية مخضبة بتاريخ حياة كاملة، حين نقبّل رؤوسهم نشعر لوهلة أننا نضع آذاننا بالقرب من مجرة ضخمة ونشطة..نكاد نسمع وقع الجمال والخيول والدواب التي عبرت بهم وأوصلتهم إلى هذه الأرض..نقول لهم بحماس الشباب«كل عام وأنتم بخير»..لحظة صمت..يبرق الفلاش باك..يذهب بهم إلى حيث لا ندري..تومض أعينهم..يهتز تجعد صغير تحت الجفنين..ويأتي الصدى عميقاً كالجرح « وأنتم بخير….الله أعلم ما لنا».. تخبرنا جدتي أنها رأت هلاله كثيراً..ليلة كانت السماء صافية..والبصيرة أصفى..تقول إنه يمر أسرع من كل شهر..«رمضان لف ملاعقك، رمضان والعيد لاحقك».. نسألها عن رمضان ما قبل عشرة أعوام..تتلعثم..تنفرج شفاهها عن كلمة واحدة..لا أتذكر..تصمت دقيقة..دقيقتين أو ثلاثا..تعبر فيها ستين..سبعين أو ثمانين سنة إلى الخلف..تتوسع حدقتاها..تكرّ الذاكرة..ترفع يدها اليمنى وترسم بها نصف دائرة في إشارة لعمارات الحي الشاهقة.. تتمتم وكأنها تحدث نفسها : « هذي كلها كانت أرض بور، أنا وجدك كنا أول من حط الرحال هنا..كان ذلك في أول يوم رمضان!».. تضع حبة تمر في فمها.. ويؤذن لصلاة الفجر.