يطل علينا هذا العام رمضان المبارك – شهر الانتصارات والفتوحات وشهر الغفران والتقوى والعبادة والمحبة – والأُمتين العربية والإسلامية وأغلب الدول وخاصة العربية تُعاني من الاضطرابات وعدم الاستقرار نتيجة لهبوب رياح الربيع العربي، تلك الرياح العاتية التي أدت إلى سقوط مجموعة من القادة العرب الذين لم يراعوا الحكم الرشيد لشعوبهم وظلموا أنفسهم بتجاهلهم لما تعانيه شعوبهم من مرارة الفقر والجهل والبطالة وغياب العدل والمساواة فأصبحوا بين ليلة وضحاها خبراً بعد عين، وجرى عليهم من الذلة والهوان ما جرى على الحكام الطغاة في القرون الأولى. ولكن المؤسف في الأمر هو ما حدث بعد التغيير من تنازعٍ على السلطة والمسؤوليات مما أشاع الفوضى وأبطأ حركة التنمية وأدى إلى ضعف الأمن فاستشرت السرقات وشاع الدمار وتزايدت أعمال النهب والعنف والاغتصاب والاعتداء على الحُرمات، كأن تلك الشعوب غير قادرة على اختيار القيادة الأصلح لهم والأكثر كفاءة بدلاً من القيادات غير الكفؤة أو التي ترتبط بولائها للقيادات السابقة، ويمكن أن نرد ذلك إلى الترِكة التي خلّفتها الأنظمة الحاكمة المنبوذة من عدم حرصها على تأسيس وبناء البيئة الديمقراطية العادلة التي تسمح بالحرية والشورى وتُعطي مساحة للحوار وتقبل الرأي الآخر، وكان نتاج تلك الفوضى وغياب الاستقرار ما حدث ويحدث حتى الآن من سفكٍ للدماء وانتهاكٍ لحرمات الضعفاء من أبناء تلك الشعوب الذين لا حول لهم ولا قوة للدفاع عن أنفسهم، وكأن قدر هؤلاء المستضعفين وقليلي الحيلة أن يكونوا هم من يدفعون دائماً ضريبة الإصلاح، كأن قدرهم أن يكونوا دوماً وقوداً لمعركة التغيير فيُعتقلون ويُعذبون ويُقتلون ويُشردون من بيوتهم وتُستباح أموالهم وأعراضهم. وفي مثل هذه الظروف يظل الناس يترقبون ما يخبؤه المستقبل الغامض، فيرى المتفائلون أن الغد سيكون أفضل وأن المسألة هي مسألة وقت حتى تهدأ العاصفة ويُسد الفراغ بعد انهزام الحكام السابقين وأن رياح الديمقراطية والحرية والعدالة ستهب لا محالة وستنتعش الشعوب وتنهض وتتهيأ الفرصة لاختيار القادة الأفضل ثم تستقر الأوضاع – بينما على النقيض يرى المتشائمون أن الفوضى وتنازع السلطة قائم وأن التخلف قد حط رحاله وأنه حتى ولو تم اختيار القادة الجدد فسيكون الاختيار عشوائياً وانتقائياً وأنهم سيكثرون الكلام والمبالغة وسيعِدون الشعوب بتحقيق آمالهم وطموحاتهم، وأنهم سيحاربون الظلم والفساد ثم إذا حدث لهم ما يتمنون فإذا هم بعد حين يكررون ما سبقه إليهم الحكام الجائرين السابقين فتعود الأوضاع سيئة كما كانت ولم يتغير سوى الوجوه! لكني أميل إلى نظرة المتفائلين لأن الشعوب أصبحت أكثر ثقافة وأشجع لمقارعة الخطوب وانحلت عقدة الخوف والرعب من جبروت الطغاة. ولعلنا نقارن بين الواقع وما كان يحصل في صدر الإسلام وفي العصرين الأموي والعباسي في شهر رمضان، حيث كان المسلمون يحرصون على العمل والصيام والقيام طوال الشهر ويحرصون على صالح الأعمال من أداء للزكاة وبذل للصدقات وغير ذلك، وتُطيب المساجد والجوامع وتُضاء المصابيح ويكثر التهليل والتكبير فتسمعه من بعد، ويخلد الناس للنوم بعد التراويح ثم ينهضون قبل صلاة الفجر للسحور وأداء صلاة الفجر مع الجماعة وهم نشيطون ثم يبكرون لأعمالهم وقد أخذوا كفايتهم من النوم والراحة ويشمرون عن سواعد العمل ابتغاء الثواب من الله تعالى ويحرصون على العمل وهم صيام محافظين على ضبط النفس والبشاشة مهما تعرضوا للإرهاق وسوء المعاملة من ضعاف الأنفس. وهناك حوادث هامة جداً حدثت في رمضان في العصور الأولى وفي العصر الحديث على حدٍ سواء ولا يتسع المجال لسردها، فرمضان أشبه ما يكون بجامعة كبرى لها تسع كليات، (كلية القرآن الكريم)، (كلية الصبر والحلم)، (كلية التقوى)، (كلية العطاء والكرم)، (كلية الاقتصاد والإدارة)، (كلية الدعاء والتوبة)، (كلية الانتصار على النفس) ، (كلية الانضباط) و(كلية الصلاة) فمن اجتهد ونافس بصبر وجلد في كل تلكم الكليات واتقى الله وتوكل عليه فإنه بعون الله تعالى سيحصل على الجوائز ويتخرج من تلك الجامعة العظيمة في عيد الفطر المبارك فيشعر بلذة الفرح ويتهلل وجهه بالسعادة في العيد لأنه اتقى الله وصبر واحتسب فرضي الله عنه ولعلها تكون مدعاة له ليحافظ على كل تلك القيم الفاضلة طوال العام. فما أحرى بالأمة الإسلامية وهم يصارعون الزمن أن يُجملوا في الطلب ويلجأوا إلى الله في أيامه العظيمة في رمضان المبارك حتى يخلفهم الله أمناً بعد خوف وسلاماً بعد شقاء وعزة بعد ذلة وليحذروا أن يتحول رمضان العظيم إلى تفنن وإسراف في الطعام والشراب وسهر في الملاهي وانغماس في ما يثير الشهوات وقلة في العمل والتكاسل والنوم في النهار. وفي هذا الخضم ستظل بلادنا المملكة العربية السعودية دولة وشعباً وبعون الله تعالى ثم بقيادة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله رافعة لراية التوحيد تنافح وتجاهد لخدمة الإسلام والمسلمين والمساهمة في أن يعم السلام العالم، والله يتولانا برحمته ومغفرته.