الحياة كلها مواسم. مواسم للزراعة ومواسم للحصاد مواسم للعمل وأخرى للراحة والخمول والاستجمام مواسم للحب، ومواسم للحرب مواسم … مواسم الزمن يعمل فيها معوله؛ يغيرها يبدلها يزيد فيها أو يأكلها جونسون في قاموسه القديم قال عن الزمن: «الزمن آكل الأشياء». للزمن فعله في الزمان في المكان في الكائنات والأحياء والأجواء المحاصيل المواليد البشر طبائعهم وأرواحهم، سلوكهم.. ربما مواليد هذا البرج لهم سمات تختلف تماماً عن مواليد ذاك البرج ما يزرع في الصيف لا يمكن له أن ينمو في الشتاء وما يتطاول في الشتاء لا يمكن له أن يعيش في الصيف!! حتى البشر سكان الجبال يذوبون في حرارة السواحل وأبناء المناطق الحارة ينكمشون إذا انتقلوا للمناطق الباردة **** للصيف قراءاته! يتحدث بعض المثقفين عن نمط معين من الكتب، تخصص للقراءة في الصيف، كتب إبداعية، لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا عصف خاطر، دواوين شعرية، روايات،مذكرات وسير هنا استفهام: ماذا يقرؤون في ما سوى الصيف؟ كتب الفيزياء النووية وعلم الفلك؟ أم كتب الفلسفة والفكر؟ أين هم الفلاسفة أو المفكرون في بلادنا؟ هل ثم فلسفة هنا؟! للصيف كتاباته أيضاً بعض كبار الصحافيين، يكتب مقالات خاصة في فصل الصيف، تكسوها الخفة، وتغلب عليها المتعة والبساطة، تبتعد عن السياسة الدولية، والحالة العربية: أزماتها وفسادها، طائفياتها وصراعاتها، مقالات عن السياحة، والمشاهدات والذكريات، والتجارب الشخصية. البعض الآخر، من الكتاب، يدخل في إجازة من الكتابة، وتظهر زاويته، باسم كاتب آخر: «يكتبها بالنيابة»! الكتابة الصحافية الدورية التزام وعمل جاد بشكل أو بآخر ** الصيف في السعودية، غير صيف بلاد المغرب، يختلف عن صيف شرق آسيا، أو صيف أوروبا في سويسرا مثلاً، يمارسون التزلج باعتيادية، والحرارة عندنا تلامس الخمسين.السعوديون تحديداً، والخليجيون عموماً، لم يتركوا مكاناً في العالم تقريباً إلا وذهبوا للسياحة فيه، وكلما تكدسوا في مكان ارتفعت فيه الأسعار وكثر الابتزاز!هذا العام غصت سويسرا بالسياح السعوديين، تستدل عليهم بالعبايات والنقاب الصيف رديف الحرارة، الذوبان في جازان. الصيف يعني: الحرارة العالية، يعني: الغبار. الغبار يسهم في تبريد حرارة الجو، يلطفها نوعاً ما، لكنه يقتل مرضى الربو والحساسية، ويتسبب في حوادث مرورية، تودي بحياة البشر، لكن الحياة تمضي في جازان، «أعراس الغبار» طقس صيفي معتاد في جازان، نسمع منذ سنوات بعيدة، عن مشروعات وخطط، للحد من هجوم الغبار، عن زيادة الخضرة والتشجير، عن أفكار لصد الرمال، نسمع ولا نرى، لم نعد نسمع ولم نرَ شيئاً في الأساس. أحد ما لم يتدخل لتعديل أوقات الدوام مثلاً، تسريح الموظفين باكراً قبل ذروة الغبار. لم نسمع -ولم نرَ- عن مشروعات لمعالجة زحف الرمال، أو خطوات للتشجير وزيادة المساحات الخضراء، مع أن جازان بطبيعتها قابلة وبسهولة لمثل هذه الخطوات. لم نسمع عن إجازات طارئة للعاملين، أو توزيع كمامات، أو برامج صحية خاصة بمقاومة تأثيرات الغبار الزاحف على الصدور! الناس في جازان أوفياء للغبار، شعارهم بيت أبي فراس: بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرامُ! الغبار عندنا، يكاد يقضي على الحياة في النهار، وجزء كبير من الليل، الأبواب مغلقة، والشبابيك محتشدة. تختلف أساليب الجازانيين في اختيار ما يغطون به نوافذهم بغية الحد من تسلل الرمال إلى داخل الحجرات وداخل الصدور والعيون! ومع ذلك فإنك تستيقظ صباحاً، تكاد تختنق من وفرة الرمال بحنجرتك!يمزج صيف جازان بين الأمطار والغبار، والعلاقة بين الاثنين ملتبسة جدًا: يفتتح الغبار موسم الصيف، يقسو أياماً، حتى تعتم السماء، فيلتبس النهار بالليل، ولا تعود تجدي شيئاً إضاءة الشوارع، ويختفي أياماً، حتى يقول القائل، انتهى الغبار بحمد الله، ويهطل المطر الخفيف، ليؤكد هذا الأمل لكن الخبراء من كبار السن وأهل الفلك يقولون: مازلنا في منزلة الزُّبرة، وهي أقسى منازل الغبار. المطر الخفيف يهيج الغبار، ويجعله يقسو كثيراً. في اليوم التالي يقولون أيضاً: إذا زبرت فجرت، أي إذا اشتد الغبار، فإن موسم المطر سيكون غزيراً بإذن الله، ويظل الناس بين رجاء المطر وخوفه. هل هو إعلان نهاية الغبار؟ أم عربون لهيجانه غداً؟ على هذا الحال، إلى أن يتوالى المطر يوماً بعد يوم، بغزارة، وكثافة رعود، وصواعق تقتل هي أيضاً عدداً من البشر كل عام، تنفجر الأودية وتسيل جازان كلها أودية تغرق هي وتقتل أيضاً عدداً آخر من البشر والأنعام! قديماً كان الغبار أشد من اليوم بكثير، كان الناس في تلك الأيام يلاقون عنتاً كبيراً جداً، إلى درجة أن الأهالي في البيوت كانوا يضعون العصيّ الطوال في التنانير وبعض أجزاء البيت حتى يستدلوا عليها بعد انتهاء هبوب الغبار! لكنهم لا يعدمون فائدة، فبعد أن يهدأ الغبار كل يوم يخرج الناس للبحث في التراب عمّا جلبته أو قشعته العواصف الرملية (الاسم الفني للغُبرة) والتقاطه، فيجدون أحياناً نقوداً معدنية، بعضها قديمة وبعضها حديثة ومستعملة في زمانهم، ويجدون أحياناً قطعاً أثرية نادرة.هذه المنح الغبارية، لم تعد موجودة الآن، الغبار لا يخلف اليوم إلا الدمار، فقد ولّت غبرة الزمن الجميل!