لا يعود الأموات أبداً للحياة، إنهم يذهبون وحسب، تلك هي الطبيعة التي لا مفرّ منها، هذا على الأقل ما كنت أعرفه حين كنت صبياً للتوّ بدأ في قراءاته من مكتبات أقربائه، ومن الكتب التي تمرّ على يديه هنا وهناك، غير أن هذه المسلمّة انكسرت بقسوة حين وقفت أمام الشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي في كتيّب صغير كان يتحدّث عنه، وأدرج شيئاً من نصوصه من بينها (لعازر 1962). لعازر.. يعود من الموت في هذا النص، يعود إلى حضن زوجته مغبراً كالحاً، على جسده طينُ الموتى ورمادُ الآخرة، يعود متخشباً ويابساً إلى حضنها الرخو، كيف يمكن أن تقبله في هذه الحالة؟ إنها ترفضه وتشعر معه أنها تعاشر ميتاً، لم تعنيني رمزية النص ولا القضية التي يناقشها من خلاله، لقد ذهل الصبيّ فيّ بهذه الحالة وحسب، العودة من الموت، ذلك اللغز المحيّر، حين تتحوّل من حلم إلى كابوس، من أمنية إلى كارثة، لم آخذ القصيدة سوى من جانبها النفسي، كنتُ أرى حال الزوجة المسكينة، التي تنظر إلى زوجها الذي ذهب بعيداً ولكنه حين جاء لم يعد كذلك، لقد غدا كائناً آخر لا تعرفه. الموت وخليل حاوي وأنا، هذه القصيدة – موت حاوي بالطريقة الفجائعية بانتحاره صبيحة اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان 1982م – وضعني ذلك الكتيّب الصغير وخليل حاوي أمام الموت مباشرة، أمام أعظم الألغاز (صبي صغير يواجه أكبر أسئلة الكون)، لا لأسأل ما هو الموت، بل كيف نعود منه دونما دمٍ باردٍ متخثر، دونما جسدٍ متخشّب، دونما عيونٍ زائغة.. بل كيف نعود منه بقلب ساخن وأعضاء متقدّة. ربما ما أزال في كتاباتي الآن أبحث عن هذا الفزع لأرويه، إنني أهرب منه إليه، خليل حاوي، وتلك الطلقة الرائعة، وذلك الموت الثمين الذي نذره لنا، نحن الشعراء من بعده، الذين لا بد لنا بعد ذلك أن نتحمّل عبء موته بهذه الطريقة، وهو الذي لم يرد أن يعود من موته متخشباً، بل أراد أن يبقى حياً وحاراً دائماً. منذ ذلك النص، منذ أوراقه الصفراء، منذ الصورة المرسومة لخليل حاوي بطريقة مفزعة على الكتيّب الصغير، منذ الطلقة، 1982م، في الرأس كما أتخيلها، وأنا أبحث عن الموت، لا لأقع فيه، بل لأخرج منه، أخرج منه كما خرج حاوي، (لعازر) القصيدة لم تجعلني أسترح أبداً إلى فكرة أن الأموات لا يعودون، إنهم يعودون.. أقول لنفسي دائماً، ولا بد حينما أموت أن أتأكد من أني لن أعود ثانية، يجب أن يكون موتاً ثميناً ونهائياً وخالصاً، لا أريد نصف موت كما حدث للعازر، لا أريده أبداً.