«تقرير التنمية الإنسانية العربية» يصدر اليوم من بيروت بحضور مساعد الأمين العام للأمم المتحدة السيدة أمة العليم السوسوة مطلقاً تحذيراً مفاده أن انعدام الأمن في البلدان العربية يزعزع خيارات 330 مليون مواطن عربي، ويهدد تحقيق التنمية البشرية التي تواجه عقبات استعصت على الحل في المنطقة. ويقدم التقرير - الذي يصدر تحت عنوان «تحديات الأمن الإنساني في الدول العربية» وحصلت «الحياة» على نسخة منه - تشريحاً مفصلاً للعناصر السبعة التي رأى أنها سبب هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة العربية، وضعف هذه البنى حيال «التدخل» الخارجي، وهو ما نجم عنه عرقلة مسيرة التقدم عربياً. ومن النادر ان يصدر تقرير دولي يتناول قضايا مصيرية تتعلق بأمن البشر ويعتبر البيئة أبرز العناصر المؤدية إلى انعدام الأمن، إذ اعتبر أن الضغوط البيئية المتعاظمة التي تواجهها المنطقة العربية ستؤدي حتماً إلى نزاعات سببها التنافس على الموارد الطبيعية المتناقصة. وتحالفت الضغوط الناجمة عن تضخم عدد السكان (يتوقع وصولهم إلى 395 مليوناً في عام 2015)، مع التوسع الحضري، وارتفاع نسبة الشباب (60 في المئة من العرب دون سن ال25)، وندرة المياه وتلوثها والمصحوبة بالتصحر وظواهر مناخية أخرى مثل الاحتباس الحراري لتؤدي إلى ما يمكن تعريفه بظاهرة «اللاجئين البيئيين». «لا أمن» الدولة وإذا كان المواطن العربي سيضطر إلى اللجوء بيئياً إن لم يلتفت الجميع إلى هذه الأخطار الطبيعية القادمة لا محالة، فإنه سيجد قدراً أكبر من الصعوبة في الهرب من دولته التي أخفقت في حمايته. ويطرح التقرير سؤالاً بالغ الحساسية، وهو «هل تحوز الدول العربية رضى مواطنيها وتساند حقهم في الحياة والحرية؟ المراقبة الميدانية التي يشير إليها التقرير رصدت علاقة وثيقة الصلة بين الاختلافات الإثنية والطائفية والدينية واللغوية في عدد من الدول العربية ونشوب الصراعات المسلحة فيها، ومنها الصومال والعراق والسودان ولبنان. هذه الصراعات – التي خلت من الإشارة إلى التدخلات غير العربية – أدت إلى آثار مدمرة انتقصت من أمن الإنسان وسلامة الدولة. وبحسب ما ورد في التقرير – والذي يتوقع أن يثير الكثير من الجدل – فإن الصراعات المتصلة بهذه الأوضاع أسفرت عن الجانب الأعظم من الخسائر في الأرواح في البلدان العربية وتجاوزت أعدادها ما وقع جراء الاحتلال الأجنبي لبعض هذه الدول»! كما انتقد التقرير المنحى الأيديولوجي أو المذهبي الذي ينتهجه «بعض» الدساتير العربية، والذي يفرغ النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة من كل مضمون. وشملت الانتقادات كذلك قوانين مكافحة الإرهاب التي منحت الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة «قد تشكل تهديداً للحريات الأساسية». ويصف التقرير العلاقة بين الدولة وأمن الإنسان بأنها «ليست علاقة سليمة»، لأنه في الوقت الذي يتوقع من الدولة أن تضمن حقوق الإنسان، تكون هي نفسها مصدراً للتهديد. واعتبر التقرير «أزمة دارفور» دليلاً إلى تأثير أداء الدولة في أمن الإنسان. وكالعادة تبوأت المرأة العربية مكانة بارزة في التقرير الدولي الذي اعتبر البيت مكاناً لممارسة العنف غير المنظور على الزوجات والشقيقات والأمهات، منوهاً بصعوبة قياس مدى انتشار العنف ضد النساء في الدول العربية لأنه «من الموضوعات المحظورة في ثقافة تتمحور حول السيطرة الذكورية»، فجرائم الشرف والاغتصاب والنزاعات المسلحة على رأس قائمة أشكال العنف الممارس ضد المرأة العربية، بالإضافة إلى الاتجار بالبشر الذي وصفه التقرير بأنه «صنعة بملايين الدولارات تتم عبر الحدود وتنتشر بين البلدان العربية». إلا أن التقرير ضم الرجال والأطفال إلى الفئات المعرضة للاتجار، ولم تقتصر على المرأة وحدها. واعتبر أن البلدان العربية صارت مقصداً رئيساً للاتجار في الأشخاص الوافدين من مختلف بقاع الأرض، لا سيما جنوب شرق وجنوب ووسط آسيا، وآسيا الصغرى، وشرق أوروبا، وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ويفجر التقرير مفاجأة، إذ يشير إلى أن العالم العربي يستحوذ لنفسه نحو نصف لاجئي العالم كله المسجلين في كل من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ووكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا)، ويقدر عددهم بنحو 16 مليون لاجئ فلسطيني وعراقي، يعيش غالبيتهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة والأردن وسورية. وفي الدول العربية كذلك ظاهرة لجوء أخرى، هي «المهاجرون داخلياً»، وهم أكثر عدداً من اللاجئين في المنطقة وأوسع انتشاراً، وتقدر أعدادهم بنحو 9.8 مليون شخص. ونسبة كبيرة منهم تتركز في ست دول عربية هي: السودان وسورية و الصومال والعراق ولبنان واليمن. وينادي التقرير بضرورة البحث عمن يخفف من الإحساس بانعدام الأمن لدى الفئات الأضعف في المنطقة، والإقرار بما تعانيه من إجحاف، «لأن ليس في مقدور الدولة أو المجتمع حماية ما لا يريانه رأي العين». الثروة النفطية أيضاً لا يسهل رؤية أبعادها المختلفة رأي العين، فهي تعطي أحياناً صورة مضللة عن الأوضاع الاقتصادية في بعض البلدان، التي يصف التقرير اقتصاداتها ب «الهشاشة»، إذ يخلف النمو المرتكز إلى النفط أسساً اقتصادية بنيوية ضعيفة يعتمد الكثير منها على الاستيراد والخدمات. وتم تصنيف الخدمات في الدول العربية في الحلقات الدنيا من سلسلة القيمة المضافة، التي تضيف أقل القليل إلى التنمية المعرفية. هذه التنمية المعرفية المتدنية في حاجة ماسة إلى التحفيز وإعادة الهيكلة بدءاً من النظام التعليمي الذي اعتبره التقرير أحد ثلاثة عوامل تفسر تفشي نسبة البطالة في العالم العربي. البطالة، التي تعد من المصادر الرئيسية لانعدام الأمن الاقتصادي في غالبية الدور العربية (المعدل الإجمالي لنسبة البطالة عربياً 14.4 في المئة من القوى العاملة مقارنة ب 6.2 في المئة عالمياً، بحسب منظمة العمل العربية). أما العاملان الآخران اللذان أججا من أزمة البطالة العربية فهما انكماش القطاع العام الذي يستخدم ما يزيد على ثلث القوى العاملة، ومحدودية أداء القطاع الخاص. والمؤسف أن البلدان العربية تعاني أعلى معدلات بطالة في العالم. ولا يمكن الحديث عن افتقار الأمن الاقتصادي، من دون الإشارة إلى الفقر الذي أضحى في الدول العربية ظاهرة أكثر بروزاً واتضاحاً مما يفترض. فبموجب مقياس خط الفقر الوطني، يرزح نحو 65 مليون عربي في حال من الفقر، في حين تصل نسبة من يعيشون في فقر مدقع إلى نحو 34.6 مليون عربي بحسب خط الفقر الدولي (2005). وعلى رغم إن الدول العربية تتمتع بقدر أوفر نسبياً على خط الغذاء الدولي مقارنة بخط الفقر، فإن هناك من السكان من هم مصنفون تحت بند «الجياع»، وهناك تباين ملموس بين البلدان العربية في مدى التقدم في مكافحة الجوع. والغريب أن الدول العربية تتمتع بدرجة من الاكتقاء الذاتي في مجال السلع الغذائية التي يقبل عليها الأغنياء، مثل اللحوم والأسماك والخضر، أكبر منها في المواد الغذائية التي يستهلكها الفقراء مثل الحبوب والشحوم والسكر. ويظل المستوى المتدني للاكتقاء الذاتي من الأغذية الأساسية واحداً من أخطر الفجوات التنموية في المنطقة العربية بحسب ما أكد التقرير. ومن النقاط الإيجابية النادرة التي أشار إليها التقرير صحة المواطن العربي، إذ حققت البلدان العربية على مدى العقود الأربعة الماضية تقدماً مشهوداً في مجال ارتفاع متوسط الأعمار المتوقعة، وانخفاض معدل وفيات المواليد الجدد. وتظل هناك «لكن»، إذ إن الصحة ليست مضمونة للجميع، فالنساء يعانين أكثر من غيرهن من الإهمال، وبعض التقاليد يمنع حصولهن على الرعاية الصحية المناسبة، بالإضافة إلى العجز البيروقراطي ونقص التمويل مع تعاظم الأخطار الصحية جراء انتشار أمراض معدية جديدة. وأخيراً... الاحتلال ترتيب «الاحتلال « باعتباره عاملاً مهدداً لأمن الإنسان العربي جاء الأخير في التقرير الذي عرض تقييماً للأضرار الناجمة عن الانتهاكات التي ترتكب ضد حقوق الإنسان، مع التركيز على آثار «التدخل» الأميركي في العراق، واستمرار «السيطرة» الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الحملة الأخيرة على غزة، والأوضاع الصعبة التي يعانيها الشعب المحاصر في الصومال. واقترح التقرير أن تتبع الدول العربية وسائل يمكن من خلالها دعم أمن الإنسان، فطالبها بتعزيز حكم القانون الذي يضمن الحقوق الأساسية والحريات وحسم النزاعات القائمة على السلطة، وكذلك الحفاظ على حقوق الفئات الأكثر ضعفاً عبر تغيير القوانين والممارسات. وعلى صعيد الاقتصاد دعا التقرير إلى التوجه نحو اقتصاد أكثر تنوعاً مبنياً على المعرفة وتوليد فرص العمل، مع مجابهة الفقر والجوع، وإنهاء الاحتلال والنزاع المسلح والتدخل العسكري الخارجي. وبيئياً، اقترح التقرير حماية البيئة من خلال تدعيم المؤسسات المعنية بها، وسن القوانين البيئية في التخطيط الإنمائي، ورفع مستوى الوعي البيئي عبر تثقيف الشباب. وشدد التقرير على أهمية تبني السياسات الشاملة التي لا تجزئ المعضلات والمشكلات، فبرامج توليد فرص العمل لن تكون ذات فائدة إلا إذا استطاع الإنسان الحصول على الغذاء السليم والرعاية الصحية اللائقة اللازمتين لقيامه بعمله. يشار إلى أن هذا التقرير هو المجلد الخامس من سلسلة تقارير التنمية الإنسانية العربية، وتناولت المجلدات السابقة «النواقص الكبرى والحادة في مجالات الحرية»، و«تمكين المرأة»، «وتحصيل المعرفة وكيفية إعاقتها لمسيرة التقدم» و«التنمية في المنطقة العربية».