«من لا يتفوق على معلمه يكن تلميذا تافها» (ليوناردو دافنشي). عندما نقرأ التاريخ الشخصي لحياة المبدعين والمفكرين نلاحظ أن كل واحد منهم كانت له طريقة خاصة أو أسلوب منفرد لشحن الذهن وإثارة القدرة الإبداعية. البعض منهم تنقدح لديه شرارة الإبداع حين يشرب القهوة أو الشاي والبعض الآخر تعود على النظر إلى البحر وسماع الموسيقى والبعض يعشق التأمل والصلاة. وقد وصف الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب أعلام النبلاء ما كان يفعله كلما احتار في مسألة قائلا «كلما تحيرت في مسألة ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المغلق وييسر المتعسر وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي وأنشغل بالقراءة والكتابة فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليّ قوتي». أما طه حسين فقد كتب ذات مرة في رسالة إلى توفيق الحكيم «أنت تعلم أن السيجارة تلهمني كما يلهمك الجلوس على القهوة»، كما يذكر أن آرنست هيمنجواي الأديب الأمريكي الذي فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1954 قال إنه يبري عشرين قلماً من الرصاص ليكون ذلك وسيلة تساعده على قتل الرتابة في أعماله. وفي دوراتنا التدريبية التي نقدمها حول إدارة الوقت نسأل المتدربين دائماً عن (ربيع الوقت) بمعنى ما هو الوقت المفضل لنشاطك وحيويتك.. ولا أزال أذكر قول هكسلي في تعريفه للمثقف «المثقف هو من اكتشف شيئا أكثر تشويقا من الجنس»!، هذا المعنى يتماهى مع ما جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان في المقولة الرائعة لإبراهيم بن أدهم الصوفي وصاحب سفيان الثوري والتي يجب في تقديري أن تكتب بماء الذهب «نحن في لذة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لحاربونا عليها بالسيوف». هذا الذوبان في العلم والعشق النبيل للمعرفة يقهر الزمن ويستنطق الهمم العالية. كان الفيلسوف الألماني (كانت) يعمل في النهار وهو في سريره ويلتحف بالأغطية المتنوعة بطريقة تسمح له بالكتابة، ويذكر أنه أثناء كتابته لكتابه المعروف (نقد العقل) كان ينظر من خلال نافذته إلى برج قائم على مسافة قريبة من منزله وقد أصابه إحباط عندما نمت الأشجار فحجبت عنه البرج ولم يستطع أن ينهي عمله إلا بعد أن قامت البلدية بإزالة تلك الأشجار حرصاً على فيلسوفها!، ولن أرسم مسحة حزن على مثقفينا ومفكرينا في الوطن العربي وأكتفي بالتلميح فلعله أنجع من التصريح! فالإلهام إذاً عملية سيكولوجية لا يمكن تحقيقها إلا بشروط بعضها شخصي وبعضها بيئي -وإن كانت هناك غرابة في طباع بعض المبدعين- فعلى سبيل المثال (موتسارت) الموسيقار النمساوي (1791م) -أقترح الدخول على you tube وكتابة موتسارت السيمفونية 40- موتسارت المبدع كان يقوم بتمارين رياضية إذا تأزم نفسيا كما كان (بودلير) الشاعر الفرنسي يتعاطى الحشيش وقد ربط في مقالات عديدة بين تعاطي الحشيش ومضاعفة الخيال!، والطريف أنني منذ فترة قصيرة شاهدت على إحدى الفضائيات مقابلة للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم وذكر فيها أنه يفعل كما يفعل (بودلير)! والحقيقة أن الأمثلة متعددة والوسائل التي ابتكرها المبدعون والمفكرون لشحذ أذهانهم متنوعة لكنني أرغب هنا في التوقف عند إشكالية وغموض حول عملية الإلهام التي أوقعت العديد من المفكرين في حرج وإرباك وشاعت على إثرها قناعة لسنوات طويلة أن عملية الإلهام تحدث بشكل قدري ومفاجئ وهذا غير صحيح. أدبيات الإبداع المعاصرة تؤكد أن العملية الإبداعية لا تنتهي عند (الإلهام) بل يتضمن العمل الإبداعي جانبا من (مجاهدة النفس) وتمرسا بالفكر حتى يتصاعد في مقاييس الأصالة فتنتقل عملية الإلهام باعتبارها مادة خام إلى شكل متكامل ونهائي. يقول توماس أديسون «معظم أفكاري اخترعها آخرون ولم يكترثوا بتطويرها»، ويقول نجيب محفوظ «الجلوس للكتابة يقتضي أن يكون لديك استعداد نفسي». ويعتبر (نيوتن) نموذجاً طيباً في هذا المجال فقد أمضى إحدى وعشرين سنة يفكر في نظريته ويحكمها قبل أن ينشر قوانينه، وقد جاء في نهج البلاغة قول صاحب المناقب وأسد الله الغالب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): من أكثر الفكر فيما تعلم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم. ويذكر هيمنجواي أنه عدل خاتمة روايته (وداعاً للسلاح) تسعاً وثلاثين مرة قبل أن يرضى عنها. أما الفيلسوف (كانت) فقد علق في كتابه (نقد العقل) قائلا مع أن الكتاب ثمرة تأمل شغلني على الأقل اثني عشر عاما فإنني أكملته بأقصى سرعة في أربعة أشهر أو خمسة باذلا أبلغ العناية بمحتوياته دون اهتمام يذكر بالعرض أو بتيسير فهمه للقارئ وهو قرار لم أندم عليه قط ولو كنت أبطأت وحاولت صياغته في شكل أكثر شعبية لما اكتمل العمل إطلاقا على أغلب الظن. وكأن الدعوة هنا تتلخص في أهمية أن تأخذ (قدراتنا العقلية + المجاهدة) دورها بجوار فاعلية الخيال الملهم، يقول هنري أيرنج «ليس الإبداع مجرد لمحة حدس مفردة إنما هو يتطلب عادة تحليلاً دائماً لعزل العوامل المهمة من العوامل العارضة». لكل إنسان على وجه الأرض قدرات وإمكانات حباه الله بها ولكل طريقته وخصوصيته في العطاء والتميز. وأرغب ختاما أن أهمس في أذن القارئ العزيز سائلا: لا شك أن لك ذوقك وطريقتك الخاصة فما هو أسلوبك المفضل لشحذ ذهنك وإثارة قدراتك الإبداعية؟