محمد زعارير صدق العاطفة وحرارة البكاء لا تظهر إلا عندما يفتقد المرء أعز ما يملك أو أفضل شيء تعلق به في حياته، فعندما ننظر في شعر السابقين نرى العاطفة تتجلى والألم يبرز عند وقوف الشاعر على الطلل وتأمله الأماكن المقفرة بعد رحيل محبوبته عن المكان الذي كانت تعيش فيه وانتقالها إلى عالم مجهول أو معلوم، حينئذٍ لا يستطيع فعل شيء إلا البكاء والتسمّر على آثارها على اعتبار أنها أعزّ وأغلى ما ملك في حياته.ولو نظرنا في حالنا وأخذنا نفتش في جنبات حياتنا عن الشيء الثمين الذي فقدناه فلا نجد جوهراً أثمن من تاريخنا، ذلك التاريخ العربي الإسلامي الذي شكّل منارةً تهتدي بها الأمم الضالة، فقد مثل عصراً ذهبياً لا يتكرر في أي حضارة أخرى وإن طالت الأيام والسنون.عالمٌ من الرقيّ والازدهار، بحر من العلوم والعطاء، نجمٌ في العلوّ والارتقاء، وحديقة تجمع من المعارف أزهارها لتهدي الأمم باقةً علمية ودينية تزين حضاراتهم. ذلك التاريخ الذي نقف على أطلاله وقفة بكاء دون ألم، ويبقى البكاء حتى تنفد الدموع ليصبح وقوفنا لا يسمن ولا يغني من جوع، فنترك أطلال عزتنا لتدخل في هامش النسيان، فننسى أن لنا تاريخاً يضرب في أعماق القدم وننسى جيوش آباء تمتدّ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، حتى يدخل هذا كلّه في مخطوطةٍ قد تآكلت على مرّ الأزمان ضاع الحقّ فيها بعد اختفاء كلماتها.لربما هذا ما اخترناه لأنفسنا؛ أن نترك حضارتنا القديمة بعلومها وعلمائها وفكرها ومفكريها وأدبها وأدبائها وبطولات قادتها وتعاليم دينها، فحاضرنا مليء بالمهمات ولا نستطيع التأمل بالماضي وأخذ نفائسه وتطويرها حفاظاً على ذلك الكنز المفقود، لذلك تركناه للغرب ينتهلون ما شاؤوا منه لأنفسهم ويأخذونه دروساً لهم ونظاماً يسيرون عليه كي يصلوا إلى قمة التحضر والابتكار، فكل ما لديهم اليوم من علمٍ وأدب وهندسة وفنون هو جزء من تراثنا الضائع الذي أبينا أن نحافظ عليه، واختاره الغرب ليحاربونا به من جديد. وقفة سريعة في الأندلس التي حكمها العرب ثمانية قرون وأنشأوا فيها حضارة تضاهي وتعتلي جميع الحضارات في ذاك الزمان، بما وصلت إليه من تقدم وتحضّر في جميع المجالات العلمية والأدبية والفنية والهندسية والطبية، ومظاهر أخرى متميزة أوصلتهم إلى مقام يتوسل إليه ملوك الغرب بالسماح لأبنائهم بالالتحاق بالكليات العربية في الأندلس ليأخذوا من العلوم العربية التي كانوا يفتقدونها، ولكن ذلك التقدم قد صار جزءاً من الأطلال التي دخلت في هامش النسيان لدينا، وصارت قاعدة متكاملة تنبثق منها الحضارات الغربية في هذا الزمن.ولكن لا تلوموا أنفسكم فالحق ليس علينا أو عليكم في عدم الاستمرار في مسيرتنا العربية، وإنما الحق يقع على عاتق عباس بن فرناس! فلو وضع ذيلاً جيداً لاستطاع الطيران إلينا عبر هذه الأحقاب الممتدة حاملاً فكره وعلوم أقرانه! وابن سينا أخطأ أيضاً! فأين عقار قوة الذاكرة؟ ألم يعلم أننا نعاني من نقص ال(b 12)؟ كلّ اللوم عليهم وعلى ابن الهيثم أيضاً الذي نسي أن يصنع لنا نظارات خارقة تمكننا من إبصار التاريخ جيداً. إذن أنتم من بدأ بالخطأ فلا تلومونا إن بقينا شعراءَ عرب نمضي زماننا في الوقوف على الأطلال حتى تزول.