نبرات الحزن تتماوج في الأضلاع جزعا على فراقه، وزفرات الفؤاد تصّاعد حارةً مع كل تكبيرة تصلي عليه، وكل ذكرى تستحضره، والموكب المهيب يمضي متلفعاً بالأسى، متسربلاً بالفجيعة، تشيِّعه الآهات والدموع، وتزفُّه الأزمنة والأمكنة، تعلوها السكينة والوقار، وتلفُّها الدهشة والسكون. نايف بن عبدالعزيز، عنوانٌ للسكينة والوقار، الطلة البهية، الروح المثابرة، النظرة الثاقبة، نصير المعروف، قاهر المنكر، ظهير العلماء، سند المواطنين، القوي الأمين. ومكارم أخرى تترى، وأخلاق عظيمة تنتشر عطراً عابقاً في القلوب، ورسماً شاخصاً في الأرواح، على مرِّ الأيام. ولا يمكننا الحصر ونحن نقلب في كتاب حياته تلك الصفحات الناصعة التي سطرها بمداد من نور؛ ديانةً، وتقديراً للعلم، وتوقيراً للعلماء، وصدقاً في القول، وقوةً في الحق، ووضوحاً في الطرح، ونصرةً للضعفاء، وحباً للمساكين. وغيرها كثير من الفضائل، وصنائع المعروف، والأعمال الجليلة؛ ومن هذه المكارم وأجلها تخصيصه جائزة تهتم بالسنة النبوية، واحتفاؤه بحفاظها من العلماء، وطلبة العلم، فكان بهذا نبراساً يضيء ليل الأمة بالعلم والحفاظ على السنة ونشرها. كذلك كان – رحمه الله – ممن يعرف للعلماء والمفكرين قدرهم، ويتواصل معهم، ويتلمس حاجاتهم، بتواضعٍ جم وأريحية عالية، وإذا تتبعنا هذا الأمر فلن نصل إلى نهاية؛ سواء مع علمائنا الأجلاء في المملكة، أو مع غيرهم من العلماء والمفكرين في العالم العربي والإسلامي، ولعلي أثبت هنا كلمة وفاء وشكر نطق بها أديب العربية ولسان الأدب العلامة الشيخ محمود محمد شاكر – رحمه الله -، الذي أسبغ عليه الفقيد مكرمة من مكارمه؛ فكتب ينثرها عبيراً ووفاءً في مقدمة كتابه (المتنبي)، وكان مما قال: «…وأنى يبلغ شكري له سبحانه، وقد لطف بي فردّ عليّ بصري بعد إظلام، ولولا لطفه سبحانه لبقي هذا الكتاب في المطبعة ناقصاً لغير تمام، فالحمد لله وحده. أما الرجل الذي أجرى الله على يديه لطفه بي، واستنقذني بمروءته من العمى، وحاطني حتى عدت بصيرا، فإني لا أملك له جزاء إلا الإقرار بفضله، وإلا الدعاء له كلما أصبحت وأمسيت، صديق لا تنام صداقته عن أصحابه، ورجل لا تغفل مروءته عن غير أصحابه. ثم هو بعدُ غني عن اللقب بمكارم أخلاقه، وفوق كل لقب بسماحة شيمه «نايف بن عبدالعزيز آل سعود»، لم يزل منذ عرفته قديما، يزداد جوهره على تقادم الأيام سناً وسناء. صرحت بذكر اسمه مطيعا لما يُرضيني، عاصيا لما يرضيه «. [ المتنبي - خطبة الكتاب: ص 5 - 6 ]. لقد كانت هذه المكرمة من الأمير نايف سبباً من أسباب ظهور هذا الكتاب العظيم؛ الذي يعدُّ من أنفس ما كتب في المتنبي خاصة، وفي الأدب العربي الحديث عامة، وقد حصل الشيخ محمود شاكر بهذا الكتاب وبغيره من الإسهامات القيمة في مجال الدراسات الأدبية على جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي عام 1404ه/ 1984م. ولم تكن رعايته – رحمه الله – تقتصر على العلماء والدعاة والمثقفين فحسب، بل فتح قلبه لكل أبناء الشعب السعودي؛ راعياً مصالحهم ومتفقداً حاجاتهم ،فتكفل بعلاج كثير من الحالات، وساهم بكل ما يستطيع في رفع المعاناة عن كاهل المحتاجين، والسعي الحثيث لعون من ألمت به مصيبة أو حلت به ضائقة. ولم يكن المواطن السعودي فقط هو من نال اهتمامه، بل تعدى ذلك إلى كل وافد يعيش على هذه الأرض، وإلى أمته الإسلامية التي كان لها نصيب وافرٌ من هذا العطاء، ولم يُصَب المسلمون في بلدٍ إلا وهبّ في أداء الواجب وبذل التضحية وإمداد الإغاثة العاجلة. لقد حمل نايف بن عبدالعزيز همَّ الشعب أولاً والأمة ثانياً في وجدانه، وما فتئ يخاطب أبناء شعبه خطاب الأخ الشفيق والناصح الأمين بكلمات تقطر عزماً وإصراراً وقوة، ويحثهم على الدفاع عن دينهم، ووطنهم، وأبنائهم، والأجيال القادمة، ويدعوهم إلى الاستفادة من وسائل العصر الحديثة لخدمة الإسلام، وقول كلمة الحق. ولا يكاد يغيب صوته عنا – وأنى يغيب ؟! -، وهو يكرر هذا المعنى النبيل لعلمائنا الأجلاء، وطلبة العلم، والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وخطباء المساجد. فطب هانئا أيها الرجل العظيم النبيل .. طب شامخاً أيها الجبل الأشم؛ فأبناؤك وجنودك ومحبوك قد أخذوا بنصائحك، ووقفوا سداً منيعا في وجه العدا، ودعاة الهوى والفتنة: أجل، أيها الداعي إلى الخير إننا على العهد ما دمنا، فنم أنت هانيا بناؤك محفوظٌ، وطيفك ماثلٌ وصوتك مسموعٌ، وإن كنت نائيا عهدناك لا تبكي، وتُنكر أن يُرى أخو البأس في بعض المواطن باكيا فرخِّص لنا اليوم البكاء، وفي غدٍ ترانا كما تهوى جبالاً رواسيا ربِّ اجعله آمناً يوم القيامة