( 1 ) ذكرياتي مع رحيل القادة من رجال الأسرة السعودية قديمة نوعاً ما. أتذكر أنني كنت جالساً بهدوء في غرفتنا الإسمنتية الوحيدة، كان عمري حينها قرابة ست سنوات، مشاهد جنازة الملك خالد بن عبدالعزيز رحمة الله عليه، يومها لم أكن أدرك على وجه التحديد ما يعرضه التلفزيون السعودي من تفاصيل النعي وكلمات الرثاء والتأبين وصور الملك الراحل، لم أكن أسأل عن شيء، فقط التزمت الصمت أمام دموع والدي الحبيب، كانت المرة الأولى التي أرى فيها دموع أبي، نظرت إلى أمي الحزينة، فهمَت التساؤل الحائر في عيني، تنهدت وقالت بصوت واهن: الملك خالد مات. حين توفي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمة الله عليه، كنت قد أصبحت راشداً، على الأقل بما يكفي لفهم فداحة الحدث، وأتذكر حينها أنني أدليت بمداخلة لإحدى الصحف تحدثت فيها عن عقلية فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- التي كانت تتمظهر في كل حواراته وأحاديثه الإعلامية وخطاباته السياسية المحلية والدولية. وقبل أشهر، حين وفاة الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد السابق رحمه الله، تأملت دموع الملك عبدالله، ونظراته الحزينة إلى جثمان أخيه وعضده الأيمن كما سماه حينها، كان حزن الملك كبيراً وظاهراً جداً، وقبل لحظات قليلة من كتابة هذه السطور كنت أتابع صلاة الميت في الحرم المكي الشريف على الراحل صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله، كنت أشاهد أبا متعب وهو يصلي، مرهقاً محزوناً، كنت أراقب شفتيه وهي تتمتم بالذكر والدعاء، وكأني به يناجي ربه، من فرط حزنه، وهو يرى إخوته، سواعده، شركاءه في المسؤولية والهم والإنجاز، يراهم يغادرونه واحداً بعد الآخر، لك الله يا عبدالله، كم يتحمل قلبك الكبير من الحزن، كم ذا يكتم في حناياه من الأنين الصامت. فلو كان حزناً واحداً لأطقته.. ولكنه حزن وثان وثالث. ( 2 ) أعلم أنني حين أكتب عن الراحل الكبير فإنني لن أكتب شيئاً جديداً ولا مغايراً، لكن في سيرة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، -رحمه الله- مجالات واسعة للحديث عنها وإبرازها، ولكنني أشعر دائماً أن الأمير نايف بن عبدالعزيز برغم أنه واحد من أبرز وأهم رجال الأسرة السعودية الذين عملوا في مناصب عالية الأهمية، إلا أنه رجل لا يميل إلى كثرة الحديث والتصريحات، ولا يظهر في وسائل الإعلام كثيراً، برغم أنه رئيس المجلس الأعلى للإعلام في المملكة، ورئيس جمعية الإعلام والاتصال السعودية. في ظل هذا التواضع من نايف بن عبدالعزيز، والعزوف عن كثافة الحضور الإعلامي، إلا أن جهازه العريض الذي قام عليه عقوداً طويلة، يعدّ من أكثر الأجهزة الحكومية تواصلاً مع الإعلام، وإجابة عن تساؤلاته عبر الجهاز الإعلامي فيه، وعبر ناطقه الإعلامي اللواء منصور التركي. ( 3 ) من يكتب لنا عن هؤلاء القادة؟ بغياب هؤلاء يغيب جانب كبير من التاريخ، التاريخ الموثق والحيوي لمسيرة البلاد والوطن، ومسيرة نايف زاخرة بالأحداث والمنعطفات التي تعامل معها، نريد أن نعرف بتوسع وبالتفصيل من المقربين من المرافقين والمستشارين والمفكرين والعسكريين، لا نريد أن نظل نترقب حديثاً عابراً من مرافق للقائد، أو مداخلة مقتضبة عبر برنامج تلفزيوني يُدلي بها من عاش شطراً من الدهر قريباً من الشخصية الكبيرة، أو عبر الذكريات أو المذكرات أو المقالات المتفرقة الرثائية أو التأبينية… نريد كتابة مركزة متوسعة ومفصلة حول الجوانب الشخصية والجوانب العملية، وإذا نظرنا إلى مسيرة الأمير الراحل صاحب السمو الملكي الأمير نايف.. نجد أننا أمام مسيرة متسعة ومتشعبة جداً جداً، من عمله في إمارة الرياض نائباً ثم أميراً، ثم في وزارة الداخلية نائباً ثم وزيراً، أزمات أمنية داخلية وخارجية، حركات إرهابية، صعاب كثيرة مرّت على بلادنا أو على جيراننا تجعل من أمر إخراجها في كتاب أو مجموعة كتب لجمهور القراء من الشعب والقادة والإداريين والعسكريين، التي بالتأكيد سوف تضيء حين نشرها جوانب كثيرة من سيرة القادة والسياسيين، والأمير نايف بن عبدالعزيز واحد من أصحاب الخبرة الكبيرة، والتجارب المتعددة والتاريخية في مسيرة المملكة العربية السعودية، والتاريخ العربي والإسلامي والعالمي المعاصر. الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- ذكر جوانب من تجاربه ومواقفه مع بعض ملوك السعودية وأمرائها، وهي تجارب مهمة جداً، ولكنها تظل محصورة في علاقته الشخصية أو العملية معهم، ولكننا نريد سيراً، سيراً مكتوبة ومنشورة تضيء لنا جوانب من النضال في سبيل الوطن وقضاياه ومنعرجاته التي مرّ عليها أو مرّت عليه. ( 4 ) الحديث عن الأمير نايف بن عبدالعزيز لا يمكن أن يمرّ دون الحديث عن جهوده العظيمة في الحفاظ على أمن البلاد، وانتصارها على أعدائها وأولئك الذين أرادوا النيل من أمنها، من خصومها أو أبنائها الذين ضلوا الطريق، فقد خاض الأمير نايف وجهازه الأمني حرباً ضروساً ضد موجات الإرهاب التي عصفت بالبلد فترة من الزمن، وخرجت منها السعودية منتصرة انتصاراً كبيراً بفضل الله. حين تتحدث كثير من الجهات والمؤسسات عن مفهوم الحكومة الإلكترونية في محيطنا المحلي، نجد أن لوزارة الداخلية، والأجهزة الأمنية بكل تنويعاتها، قدم السبق في هذا الجانب، فالخدمات الأمنية الإلكترونية هي الأكثر توفراً بين يدي المواطنين، من الجوازات إلى المرور إلى الأحوال المدنية وغيرها من القطاعات، حيث أصبحت هذه المعاملات متاحة بيسر وسهولة للمواطنين والمقيمين وراغبي الحج والعمرة وغيرهم. رحم الله الأمير نايف بن عبدالعزيز، وأحسن العزاء لنا ولقلب عبدالله بن عبدالعزيز، أكبر المحزونين في هذا الرحيل.