كتبت مقالي الأسبوع الماضي عن العصر الجديد لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يتبدى من حديث رئيسها العام الشيخ عبداللطيف آل الشيخ، حين تهدج صوته بالبكاء وهو يقر أن «تعسف رجال الهيئة من أكبر الجرائم». كما أن الرئيس وفي نفس اللقاء حدد خمس مهام رئيسة للهيئة تكون مجال عملها. بدا لي أن الهيئة مقبلة على عهد جديد بناء على النقطتين أعلاه، الإحساس الفائق من رأس الجهاز بمظالم جهازه وتحديده، أي الرئيس، لمجالات واضحة لا لبس فيها لعمل رجاله في الميدان. تلقيت على إثر ذلك المقال جملة من المداخلات والاعتراضات من بعض الأصدقاء والقراء. الغريب أن هذه التعقيبات تركزت جميعها على موضوع واحد، هو أنني متفائل أكثر مما ينبغي. وتزداد الغرابة حين نعلم أن بعضا من أحبتي أصحاب تلك الملاحظات ليسوا من نقاد الجهاز أصلا، بل طالما تبنوا وجهات النظر المدافعة عنه. ربما أن تبنيهم للأصوات المدافعة عن الجهاز لم يكن يتم بقناعات ذاتية قدر ما هو تبنٍ لخط فكري معين مقابل آخر، أي الخط الإسلامي مقابل الليبرالي. فالنقاشات المجتمعية لدينا كثيرا ما أخذت شكل الصراع الأيديولوجي والاستقطاب الحاد بدل النظر في المشاكل نفسها. المهم، ينتقد أصدقائي تفاؤلي تجاه مستقبل العلاقة بين المجتمع ومؤسسة الهيئة. يجتمع هؤلاء الناقدون على حجة بسيطة بينة واضحة: كلام الرئيس في محفل ما ليس دليلا كافيا على توجه جديد للجهاز. بعضهم يذهب أبعد من ذلك. في رأي هذا البعض، أن جهاز الهيئة انبنى وتشكل خلال العقود الماضية على مفهوم التمتع بسلطات واسعة للأفراد في الميدان. وأن هناك ذهنية تشكلت داخل الجهاز وسيطرت على طريقة تفكير أفراده، الميدانيين وقادتهم، أنهم حماة الأخلاق والأعراض في مجتمع انتقالي تتهدده الأخطار الأخلاقية والغزوات الفكرية وتقوى فيه التيارات المنحرفة والسلوكيات الخطرة. وأن لهذه الفكرة قوة أخلاقية جبارة تجعل أفراد الجهاز والمتعاطفين معهم في مؤسسات الدولة الأخرى وفي المجتمع الكبير ينظرون لخطايا الجهاز وزلاته بعين الرضا، فكل نقد للجهاز سيكون أوتوماتيكيا قبولا بالدمار الأخلاقي. ويضربون أمثلة على ذلك من قصص واقعية حدثت كانت الهيئة طرفا فيها، مثل قصة الرجل الخمسيني سائق التاكسي في تبوك الذي قضى جراء ارتفاع السكر عليه وهو موقوف في مركز الهيئة. أو المطاردة والتسبب في الموت، كما حدث لشاب وفتاة في الشمال وأربعة أشخاص (شابين وفتاتين) في المدينةالمنورة، أو القتل دهسا عند القبض على المشتبه به، كما في قضية الحريصي. يحاججني منتقدي نبرتي التفاؤلية بهذه القصص مدعين أن جهازا «شرب لذة التحكم بالبشر لهذه المستويات ووجد تعاطفا من الأجهزة العدلية لدرجة التبرئة الأزلية ودعما من شرائح في المجتمع ترى في الجهاز شهيد الهجمة على الأخلاق والأعراض» – حسب وصف البعض»، ليس من اليسير عليه، أي الجهاز، ولا على أفراده أن يتخلوا ببساطة عن رؤاهم الراسخة فقط لأن رئيسا جديدا للجهاز أصبح يرى «اجتهادات» الأفراد بوصفها تعسفا. ويستدلون أكثر على التسميات المستخدمة. فتسمية أفراد الجهاز بحراس الفضيلة تكفي لنزع الشرعية عن أي نقد لهم حتى لو كانت من داخل الجهاز نفسه. فالوجود حرب تسميات، ولا يمكن أن يسمى جهاز بأنه حارس الفضيلة ثم تسمى ممارسات أفراده بأنها تعسف، يا هذه يا تلك. وجدت نفسي حائرا عيي الحجة أمام تلك الانتقادات. لكني لذت بتخصصي العتيد، أي علم الاجتماع، لأقول لأصدقائي أن المجتمع بلغ من التركيب والتعقيد والتنوع درجة يستحيل معها أن يُحمل على الخط المسلكي الذي كانت الهيئة تحمل الناس عليه في الأسواق والفضاءات الاجتماعية العامة. ومع التركيب والتعقيد الاجتماعي تتقوى الفردية، إحساس الفرد ذكرا أو أنثى بذاتيته وفرادته وحاكميته على جسده ولبسه وتصرفاته. وأن هذه الفردية تتصادم تكوينيا مع فلسفة الهيئة وتصوراتها لما يجب أن تكون عليه سلوكيات الناس. فالفرد الذي كان يقبل النصيحة التي فيها تعنيف عليه قبل خمسة عقود أصبح الآن يرى فيها، أي النصيحة، تعديا غير مقبول على ذاتيته مهما كان مبررها. بل إن الهيئة نفسها بدت، وإن بشكل غير واضح، تعي هذه التغيرات. فأصبحت تنشط في نشر الأخبار عن تخليصها الفتيات من تسلط المبتزين، الذين يكونون على علاقات سابقة بالفتيات. في نفس الوقت، تجهد الهيئة في إنكار أخبار تجاوزات رجالها في الميدان. بشكل ما، تعزز الهيئة صورة جديدة عن نفسها بوصفها حامية الفرد حتى في خطاياه والبعيدة عن التسلط عليه. عل هذا يساعد الرئيس الجديد في مسعاه ويثبت أن لتفاؤلي أساسا مبنيا – أساسا – على التغيرات العميقة في المجتمع الأكبر.