تعج الحياة السياسية العربية بكثير من السلوكيات العجيبة والغريبة، بل والإجرامية، والمستهجنة، والمرفوضة عالميا وإنسانيا، التي لا تكاد تجد قبولا ووجودا، في العصر الحاضر، إلا في عالمنا العربي المسكين. من ذلك: ما يمكن أن نشير إليه ب»الوقاحات السياسية». ومعروف أن «الوقاحة» -أعاذكم الله منها- غالبا ما تعني: ارتكاب عمل قذر ومستهجن -بكل المقاييس المتفق عليها- بدم بارد، وباعتبار ذلك العمل عاديا، بل والادعاء بأن ذلك العمل سليم -شرعا وأخلاقا. وأنه لا يستدعى الاستنكار، الذي لا يكترث الوقح به، في كل الأحوال، ولا يخجل من تسفيه من يرفض ويستنكر أفعاله. وبالتالي، يمكننا تعريف «الوقاحة السياسية» كالتالي: ارتكاب عمل سياسي قذر، ومستهجن -بالمقاييس القانونية والإنسانية- بدم بارد، ومحاولة إظهاره بأنه عمل عادي، ومشروع، ولا يستدعى الرفض والاستنكار، الذي لا يكترث الوقح سياسيا به، على أي حال. ولعل صفة «الوقاحة» تكتسب -أساسا- من عدم خجل «الوقح» من ارتكاب محرمات ومستهجنات. كما يمكن القول إن هناك وقاحات اقتصادية، وأخرى ثقافية…إلخ. ولكن، بما أن أبشع وأفظع الجرائم، وأنكى الخطايا، هي الجرائم والخطايا السياسية، فإن أشنع وأسوأ الوقاحات هي الوقاحات السياسية، لأن الإجرام السياسي غالبا ما يلحق ضررا بالغا بملايين البشر، وفى شتى المجالات. وبالتالي، فإن هذا النوع من الوقاحات هو أكثر الوقاحات إثارة للغضب والاستياء.والوقاحات السياسية في عالمنا العربي من الكثرة، بحيث يحار المراقب أي «الأمثلة» يورد. ولعل أول ما يخطر على البال في هذه اللحظات هو: ما يجري في سوريا الآن، وما يجرى في مصر المحروسة. حيث تتفاقم وتتصاعد الوقاحة السياسية للنظام الأسدي السوري. وكانت لنا وقفات مع جرائم هذا النظام. أما في مصر، فقد زادت الوقاحة السياسية للمؤسسة العسكرية المصرية، ممثلة في «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، الذي أخذ يحكم مصر منذ الإطاحة بحسني مبارك، ولكنه، في الواقع، كان -وما زال- يحكم مصر -مباشرة وغير مباشرة- منذ العام 1952م، أي عقب الانقلاب على النظام الملكي المصري السابق. ويجزم المختصون بأنه لا يوجد أي مبرر لهذا الاستحواذ على السلطة بمصر. ومنذ خلع الرئيس مبارك، أخذ العسكر يحكمون مصر مباشرة، ولكن بالأسلوب الذي يدعم سلطة الجيش، ويكرس حكم العسكر، بشكل سافر، ويدعم هيمنته على مقاليد الأمور بمصر. فقاد المجلس العسكري «الثورة المضادة» لثورة 25 يناير المصرية، وتفنن في محاولات تثبيت هذه الردة، عبر عدة إجراءات، منها: إطالة أمد «الفترة الانتقالية»، تشكيل حكومات مؤقتة معظم أشخاصها من ال»فلول» (وهم يتامى نظام مبارك) وعدم صياغة دستور متكامل وشامل تقبله الغالبية المصرية. هذا، إضافة إلى اللجوء إلى تراخ أمني، ربما هدفه إثارة شيء من الفوضى هنا وهناك…إلخ، حتى كاد الناس يظنون أن المجلس العسكري سيعيد مبارك إلى السلطة، مكرما معززا!ثم دفع العسكر باثنين من أساطين نظام مبارك، هما: عمر سليمان، وأحمد شفيق، للترشح لمنصب «رئيس» مصر! ولم يتمكن من إبقاء سليمان في السباق، فخرج سليمان بقوة القانون. ولكن أحمد شفيق بقي -بقدرة قادر- ليصبح فيما بعد، أحد اثنين مرشحين لرئاسة مصر! وتلك وقاحة لا يضارعها إلا الضغط على المحكمة الخاصة لتبرئة نجلي مبارك، ومساعدي وزير الداخلية السابق، من تهم استغلال النفوذ والتنكيل بالمتظاهرين السلميين، ثوار 25 يناير. وقد تصل وقاحة المجلس السياسية لمنتهاها إن «فاز» شفيق بمنصب رئاسة مصر.إن مهمة العسكر في أي بلد هي: حماية الوطن، والحفاظ على مقدراته، والعمل على استتباب الأمن والنظام فيه. وغالبا ما يفشلون ويسيئون، عندما يتجاوزون هذه المهمة الجليلة. وكثيرا ما يؤدي انخراطهم في سياسة بلادهم إلى ابتلاء تلك البلاد بكوارث لا تجتازها إلا بتضحيات هائلة. نذكر ذلك ونحن على يقين بأن شعب مصر العظيم سيتجاوز كل المحن والصعوبات، وسيوقف كل الوقاحات، ثم يحقق ما يصبو إليه من طموحات. وعلى كل حال، فإن الوقاحات العربية -مهما تصاعدت- لا تصل إلى درجة وقاحة ساسة بعض الدول والكيانات المارقة، وفى مقدمتها إسرائيل، التي يمارس معظم قادتها منتهى الوقاحة السياسية، وعلى مدار الساعة. وقد نتحدث من جديد عن بعض تلك الجرائم.