قبل سنوات كتبت في جريدة الوطن مقالا عن «المرأة والقضاء» متسائلة عن العلة الشرعية في ذلك ومستشهدة بتجارب الدول العربية ومنها التجربة المصرية في تعيين قاضيات، حينذاك وصلني استفسار من أحد القراء يسأل عن الأدلة الشرعية التي استندت عليها في رأيي، ولأنني لم أشأ أن أتعجل بالرد حسب قناعاتي الذاتية وإنما أردت أن أعطي الموضوع حقه من البحث والقراءة، دونت هذه الملاحظات على هوامش أطروحة الماجستير التي أجريت من خلالها دراسة مقارنة حول المرأة والقضاء في مصر والسعودية حتى أعود لها وأكتب عنها باستفاضة. بداية، من خلال اطلاعي على عدد من الأطروحات والرسائل العلمية ورسائل الدكتوراة وغيرها من كتب لقضاة تناولوا عمل المرأة في القضاء وجدت أن هنالك ثلاثة أقوال في ذلك مع ترجيح بعضهم قولا على الآخر حسب قناعتهم: القائلون بالمنع وأدلتهم وهو قول الجمهور (الحنابلة والشافعية والمالكية والشيعة الزَّيديَّة ونفر من الحنفية). والقائلون بالجواز المقيد وأدلتهم جواز توليها القضاء فيما تصح شهادتها فيه سوى الحدود والقصاص (وهو قول الأحناف وابن قاسم من المالكية). وأخيراً القائلون بالجواز المطلق وأدلتهم (وهو قول ابن حزم الظاهري وابن جرير الطبري وهو قول عند الأحناف). وهذه الأقوال اجتهادات فقهية جاءت في عصور لاحقة مع امتداد أرجاء الدولة الإسلامية وانضمام كثير من الأقاليم المتاخمة تحت لواء الإسلام ومع ازدهار حركة التعليم والترجمة والنقل. وحسب علمي لم يرد في الكتاب والسنة نصوص قطعية التحريم أو التحليل بصريح العبارة، لذا لن أخوض في بحث صحة أسانيد أدلة كل فريق بل سأترك ذلك للباحثين الشرعيين وإنما سأتوقف بشيء من التأمل عند حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» والمقولة الشهيرة التي ترد في أدبيات العلماء والعامة على حد سواء أن المرأة محكومة بالعاطفة، وأن عاطفتها أدعى لذهاب عقلها! هنالك قصص كثيرة في القرآن الكريم جديرة بالتأمل وذات دلالات عميقة، حينما نعيد النظر في «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، نعود للبحث في القرآن الكريم، والله عز وجل يقول في محكم كتابه: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) فنجد في القرآن الكريم ذكر لقصص نساء كثيرات. لكنني سأتوقف بشكل محدد عند قصتين بشيء من التفصيل: الأولى قصة آسية زوجة فرعون، تدور القصة في وقت أوجه ما بلغت فيه الحضارة الفرعونية من قوة وسيادة على العالم، وفرعون وهو أعلى سلطة ذو نفوذ، أو أشبه بحاكم دكتاتور حكم مصر بقبضة من نار إلى درجة أنه قال: (أنا ربكم الأعلى!) وتكفي الشواهد الباقية اليوم في مصر على سطوة تلك الحضارة التي فتنت فرعون فظن بأنه إله! فتأتي النبوءة أو الرؤيا التي أوعزت إلى فرعون بقتل كل طفل يولد في بني إسرائيل خشية على ملكه من الزوال. بعد ذلك يصور القرآن في مشهد درامي وتجسيد بليغ في الصورة والعبارة حينما عثرت امرأة فرعون على موسى في تابوت صغير يتهادى على نهر النيل فقالت: (قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا)، على الرغم من أن النص القرآني يختزل المشاهد ببلاغة في نصوص مكثفة المعاني، لكنه يهمل التفاصيل بإمعان ليتركها لخيال القارئ أو لقدرته على الاستنباط والتحليل. نعاود تصوير المشهد من جديد فرعون بكل جبروته المهيب يأمر بقتل هذا الطفل، من يملك أن يخالفه أو ينازعه في أمر له علاقة بملكه، إلا من هو يفوقه سطوة وحكمة وعلم! كانت آسية بمثابة «السيدة الأولى في مصر» وهو مسمى أنيق لمن يعرف في أروقة السياسية اليوم ما للسيدة الأولى من تأثير مباشر أو غير مباشر على سياسة الدولة. التاريخ يخبئ حكايات عظيمة لسيدات كان لهن شأن وحظوة في تغيير عجلة التاريخ، لكن في حكاية آسية امرأة فرعون ما هو أعظم من ذلك أنها بقولها: (قرة عين لي ولك) غيرت وجه الحضارة الإنسانية. وحولت فرعون مصر العظيم إلى جثة محنطة كائنة حتى اليوم في المتحف المصري. بجانب هذه القصة يذكر القرآن الكريم بشكل ضمني قصة أخرى عابرة في السياق (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) وهو زوج الماشطة التي أبت أن تنكر إيمانها حينما سقط المشط من يديها وهي تسرح ابنة فرعون فقالت: بسم الله، فردت عليها ابنة فرعون: الله.. أبي؟ فصاحت الماشطة بابنة فرعون: كلاّ.. بل هو الله.. ربي.. وربُّك.. وربُّ أبيك! فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها، ثم أخبرت أباها بذلك، فعجب من ذا الذي يجرؤ داخل قصره وصولجانه بعبادة إله غيره، فدعا بها، فأمرها بالرجوع عن دينها وحبسها وضربها فلم ترجع. فأمر فرعون بقدر من نحاس فملئت بالزيت، ثم أحمي.. حتى غلى.. ثم جيء بأبنائها الخمسة وألقوا تباعاً في القدر المغلي، حتى توقفت عند ابنها الرضيع فأوشكت أن يرق قلبها لها: فأوحى الله إلى الصغير فنطق في المهد مكلماً إياها بأن: (اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ)، وهي المرأة التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام: (لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا...)، وموقف هذه المرأة العظيم على الرغم من تواضع مكانتها فهي مجرد ماشطة ليست امرأة ذات مال أو ذات مكانة أو ذات منصب قيادي في عصرها، ومع هذا تقف موقفا عظيما تتحدى به فرعون مصر وترى أطفالها يلقون في الزيت المغلي الواحد تلو الآخر في موقف لم يجرؤ أعتى رجال فرعون على خوض نفس التحدي أمامه! فكيف بامرأة وهي تشهد موت أطفالها الواحد تلو الآخر؟! أخيراً، مع التوجه في كثير من الدول العربية تمكين المرأة من العمل في القضاء وآخرها المرأة الكويتية التي تستعد حالياً لتولي منصب القضاء، يتضح لي لم تعد وظيفة القضاء وظيفة دينية وإنما وظيفة مدنية. وما اختلاف العلماء في حكم تولية المرأة القضاءَ؛ واختلافهم في الشروط المؤهلة لتولي هذا المنصب وأدلتهم وأقوالهم ما جاء إلا رحمة. لأن الاختلاف في كثير من الأحيان رحمة.