صورة لأم ذات شأن عظيم .. ربما كانت تؤمل أن تكون في أفضل حال من رغد العيش لتربية أبنائها الخمسة الصغار، تطعمهم ليكبروا مقابل عملها في منزل (فرعون) إلا أن الله تعالى جعل لها وأبنائها منزلة في الجنة أفضل وأشرف وأكرم من رغد فرعون الزائف .. لكن من يستطع أن يصبر على ما أصابها كما صبرت ؟ هل نكتفي بأن نغني للأم في كل عام الأغنية الوحيدة المعروفة ( ست الحبايب ) مع قُبلة نهديها على الجبين أو (تورته) أو وليمة ؟ .. لقد أمرنا المولى عز وجل أن نخفض لهما جناح الذل من الرحمة .. وأن ندعو لهما وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة تحت أقدام الأمهات .. ليحملك ذلك على التواضع وبذل الطاعة والذل لهما وأن تكون تحت إمرتهما إلا الشرك بالله،وتلتقط من تحت أقدام أمك ورضائها ثمار برك ورأفتك فيرفعك الله تعالى جزاء ذلك مكاناً علياً .. فلا تنهرهما ولا تقل لهما أُف فهو منتهى الرقة والتلطف وليس بعد هذا التوجيه الرقيق من توجيه.. فهل فكّر الأبناء العاقين لوالديهم في مكانة الأم والوالد؟.. وهل فكر الإخوة المتخاصمين المتشاحنين المتحاربين في مكانة الأم التي ولدتهم وكم يؤذيها هذا السلوك والتباغض بين أبنائها ؟ وهل فكر من فقد والديه أو أحدهما أن يبذل الدعاء كل يوم وكل ليلة لهما ؟ وأن يحرص من يعيش في كنفهما أو في كنف أحدهما أن يجتهد في برهما قبل فوات الأوان ؟ فهذا هو العيد الحقيقي للأم وليس غير. وقصص الأمهات كثيرة وعظيمة .. وقصص البر كثيرة وعظيمة أيضاً .. إلا أنه للأسف فإن قصص العقوق كثيرة ومؤلمة .. وللأمهات عبر التاريخ سيرة عطرة وتضحيات لا توصف .. ولعلي أهدي قصة هذه الأم الصالحة وموقفها العجيب أمام (فرعون).تعزية ومواساة لكل أم فقدت ابنها جراء العدوان الغاشم على غزة وفلسطين وفي كل مكان لتتعزى بها وتصبر وتحتسب وليستمسك الأبناء ببر والديهم.. فقد احتسبت هذه الأم نفسها وأولادها أمام الأهوال التي تلهب حر كبدها .. إنها قصة ماشطة ابنة فرعون (لعنه الله) وتتلخص قصتها في أنه صلى الله عليه وسلم مرّ ليلة الإسراء والمعراج برائحة طيبة فقال: (ما هذه الرائحة يا جبريل ؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون).. وقصتها أنها كانت ذات يوم تمشط ابنة فرعون إذ وقع من يدها المشط. فقالت : بسم الله .. فقالت ابنة فرعون لها : أبي ؟ فقالت لها الماشطة: كلا ، بل الله ربي .. وربُّك .. وربُّ أبيك ..فتعجبت قَالَتْ : أُخْبِرُ أبي بِذَلِكَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَأَخْبَرَتْهُ فدعاها وقال لها : من ربك ؟ قالت : ربي وربك الله .. فأمرها بالرجوع عن دينها وحبسها وضربها فلم ترجع..فأمر بقدر من نحاس فملئت بالزيت ثم أحمي حتى غلي وأوقفها أمام القدر .. وأمر بإحضار أطفالها الخمسة أمام أعينها..فصار الأطفال تدور أعينهم .. وتعلقوا بها يبكون .. فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي .. فلما رأى فرعون هذا المنظر أمر بأكبرهم .. فجره الجنود وألقوا به في الزيت المغلي .. والغلام يصيح بأمه ويستغيث بها.. فما هي إلا لحظات حتى ذاب لحمه من على جسمه النحيل .. وطفحت عظامه بيضاء فوق الزيت .. ثم نظر إليها فرعون وسألها من ربك فكررت عليه ما قالته بالسابق.. عندها أمر بولدها الثاني فسُحب منها وهو يبكي ويستغيث وألقي في الزيت .. وهي تنظر إليه حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه .. ثم عاد فرعون من جديد يسألها من ربها كما سألها في السابق وهي تجيبه كما أجابته من قبل ..فأمر بالابن الثالث ورمي في القدر المغلي وفعل به ما فعل بأخويه والأم ثابتة على إيمانها .. ثم أمر بطرح الرابع في الزيت وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه من هول وفظاعة ما يشاهد فحالوا بينه وبينها ...وما هي إلا لحظات حتى أُغرق في الزيت المغلي وغاب الجسد الصغير البريء وانقطع الصوت وعلت عظامه الصغيرة البيضاء فوق الزيت.. فإلى الله تعالى المشتكى .. فلطالما أرضعته من ثديها وسهرت لسهره وبكت لبكائه فلا حول لها ولا قوة .. ثم التفّ حولها جنود فرعون وانتزعوا الخامس وكان رضيعاً من بين يديها .. فلما انتزع منها بكت المسكينة .. فلما رأى الله تعالى صدقها وصبرها وذلها وانكسارها وفجيعتها بأولادها .. أنطق الصبي في مهده وقال لها ( يا أماه اصبري فإنك على الحق) ثم انقطع صوته عنها .. وغُيِّب في القدر مع إخوته ، ثم أقبلوا عليها وحملوها ليقذفوها في الزيت .. فنظرت إلى عظام أولادها .. وتذكرت اجتماعهم معها في الحياة فالتفتت إلى فرعون وقالت : لي إليك حاجة فقال: وما حاجتك ؟ فقالت : أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد .. ثم أغمضت عينيها وألقيت في القدر .. فالتحية والدعاء لهذه الأم ولأبنائها الشهداء .. ولكل أمهاتنا وأمهات المسلمين والأرامل والشهداء ولنجعل عيدهن الحقيقي دوام البر ولين الجانب والدعاء لهما (ربِ ارحمهما كما ربياني صغيراً) .. [email protected]