محمد علي البيشي – أستاذ جامعي في السياسة الشرعية رسم: معتصم هارون (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) بهذا الحديث وغيره حث النبي – عليه الصلاة والسلام – الناس على الانكباب على سورة الكهف والتمعن في بلاغة ألفاظها ومكنونات أسرارها مرة كل أسبوع؛ لأن الإنسان لا يخلو أن تقلَّب فيه بين فتنة الدين والمال و السلطة والعلم، وهذه السورة بقصصها الرباعية عالجت تلك الجوانب صراحة و ضمناً و إشارة. وقصة موسى والعبد الصالح – عليهما السلام – إضافة لإجلائها التربية السلوكية للمسلم – تعرضت لطرف مهم هو علم «السياسة الشرعية» بالنسبة للعلماء وطلاب العلم في أهم مظاهرها الموضوعية هو تقدير المصالح و المفاسد. نتحدث أولا عن الجانب الأول؛ نتعلم من هذا الحدث أن المعلومة و»طلب المعرفة لا تقاس بالأعمار» ولا يحدها سور ولا يعرقلها مشروع آخر أقل منها، وتتساقط أمامها الحجج الواهية؛ فموسى – عليه السلام – كان سيد قومه وعالمهم ومن أولي العزم من الرسل، وقد خرج للتوِّ من معركة انتصار الحق و دحر مملكة فرعون؛ إلا أن ذلك لم يمنعه من استزادة العلم و السعي لتحصيل ما خفي عنه عندما سأل الله (وأين أجده ؟). و»وضوح الهدف والغاية منه» كانت من أهم عوامل ثبات موسى في رحلته الشاقة من أرض الشام إلى شمال مصر، حين قال لغلامه يوشع بن نون (حتى أبلغ مجمع البحرين) ولو اضطررت أن أسير مدة أطول مما قدرتُها، و إذا انتقلنا لصورة تعامل القائد مع رفاقه في رحلة العلم و كيف أنه – عليه السلام – أحسن غاية الإحسان حينما «ساوى بينه و بين خادمه في المعاملة» ودحر الفروقات البشرية على الرغم من فضله؛ وذلك لما أمره بإعداد طعام الإفطار لكليهما (آتنا غداءنا)، وحينما غفر له خطأه القابل للاغتفار في سبيل مصلحة إدراك الوقت و بذل الغاية لتحصيل القدر الأكبر من العلم قال: (ذلك ما كنا نبغِ) فلم يفتح ملفات الانتقام والتأنيب والتعذيب في العمل وهو قادر على ذلك. ونلاحظ أن الله – تعالى – قد نسب خطأ يوشع بصيغة التثنية شاملة موسى عليه السلام (نسيا حوتهما) وكان المخطئ هو الخادم للدلالة على أن «تصرفات أصحاب المشروع الواحد – الإيجابية والسلبية منها – يتحملها الجميع في الوصف»، فلا بد من الأخذ بيد المتسرعين والمستبدين برأيهم ودعم العاملين الصادقين؛ إذ الجميع في مركب واحد. وقد أراد الله – تعالى – قذف المشقة الحسية (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) على موسى – عليه السلام – قصداً للرجوع إلى المكان الذي يعلمه موسى؛ و لئلا يستمر في طريق الخطأ، وهو ما يقدِّره الله – تعالى – على الدعاة و الشرفاء؛ «فالعراقيل – أحيانا- تكون خيرا لهم من حيث أنهم يرونها شراً و منعطفاً تخاذلياً»، و هذه القاعدة لو تربى عليها الجيل و نشأ لأصبحت فكرة البدائل تغطي جانباً من مشروعاتنا الدعوية و الوطنية؛ دون الحاجة إلى وقفة محارب مجبور أو سماع صيحات المخذِّلين. ومن نفائس السلوك أن يحرص المرء على «أخذ العلم من أهله» فموسى لما وجد العبد الصالح وعليه آثار العبادة و الصلاح لم يكتفِ بالعلامات الظاهرة بل سأله كما في الحديث الصحيح: (أأنت العبدُ الصالح؟ قال نعم، إن الله علمني علما لم يعلمك إياه ، وعلمك علما لم يعلمني إياه) فلما اطمأن له اصطحبه في رحلته، فكم من شخص استفتى من لا يصلح للفتوى، و طلب العلم على من يعتقد تكفير هذه الدولة المباركة، أو يفسر النصوص الشرعية على اعتقاده الصوفي المنحرف أو الاعتزالي التأويلي! وقد حرص موسى – عليه السلام – على «قصر العلم في الجانب الذي يورث عملاً» و ليست «سفسطاءات» المسائل ومغلوطاتها و كذا ما لا تطيقه نفسه و تتشوق له (على أن تعلمني مما علمت رُشداً) وهي كعبة المستفيد و أمل العامل.. ونختم هذه الجوانب السلوكية بأهمية «الصبر و عدم الاستشكال والعصيان في مقام التعليم» و أن يوطن طالب العلم نفسه عليها و يدربها قدر مجاهدته، فموسى – عليه السلام – قد وعد الخضر – عليه السلام – بالمصابرة في العلم و عدم العصيان؛ وكم من العلم قد حرم المستعجل المشاغب.. كما حرم موسى – عليه السلام – التزود مما عنده جاء في حديث البخاري (يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا أمرهما!) قال ابن تيمية: فإن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أحب أن يقص الله خبرهما فذكرهما لبيان محبته للصبر المترتب عليه فعرفه ما يكون لما في ذلك من المنفعة!