الانتساب للإسلام يمثل أقصر الطرق لكسب ثقة الناخب. هكذا تؤكد الأحداث من مصر إلى المغرب، لكن أولويات الأحزاب الإسلامية المتصدرة تشهد تبدلاً لافتاً يدفعنا لإعادة النظر في مفهوم الدولة الإسلامية وفق المستجدات. فراشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة التونسي، أعلن عقب الانتخابات التاريخية التي شهدتها بلاده أن حكومته لن تمنع لبس الأوروبيات ل”المايوه” على الشواطئ التونسية. وعبد الإله بن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية سابقاً، ورئيس الوزراء المغربي حالياً، صرّح هو الآخر بأنه لن يعلن حرب “الخمر والحجاب” على المجتمع. بل إن مواقع الأخبار نقلت عنه قوله: “نحن في المغرب لن نمنع شيئاً إلا كما يتيحه القانون”. وبقليل من البحث فسنعثر على تصريحات مماثلة ل”إسلاميين” من تركيا وماليزيا أيضاً. سيسأل سائل: “كيف تصفُ هذه الأحزاب نفسها بأنها إسلامية، في حين يتكلم مسؤولوها بهذه اللغة؟ كيف يرفع حزبٌ ما شعار الإسلام، ثم ينخرط في المنظومة المدنية، متبنياً أجندة لا تجعله يختلف عن أي حزب علماني؟”. إذا سألتَ رجل الشارع عن أساسيات الحكم الإسلامي، فإن إجابته لن تخرج عن المفردات التالية: منع الاختلاط، حظر تعاطي المنكرات، إقفال المتاجر وقت الصلاة، وقطع يد السارق. وهذه الإجابات تعكس الأزمة العميقة التي لا يعانيها العوام وحدهم في فهم روح الشريعة، بل وتمتد لتشمل جيشاً من المحللين والخبراء ممن لا يرون في الإسلام السياسي إلا بعبعاً يقرنونه بقمع الحريات ونزع البهجة من الحياة. تلك القراءة السطحية تختصر لنا أزمة الهوية التي تعانيها المجتمعات العربية والمسلمة، الغارقة في الآن ذاته في أوحال الفقر والجهل والفساد. ما المقاصد الحقيقية لأي حكومة إسلامية إذاً؟ الجواب تحمله أسماء الأحزاب التي ذُكرت بعاليه: العدالة والتنمية، والنهضة. وسنجادل هنا بأن أي حزب، أي حكومة مهما كانت ملّة أعضائها، متى ما طبقت تلك القيم فإنها ستُصنّف تلقائياً على أنها حكومة ذات مقاصد إسلامية. العبارة أعلاه تبدو صادمة لأول وهلة. لكن لنفككها كي ندرك قدر التمييع الذي نمارسه حيال مقاصد الإسلام في الدولة، بالرغم من أن تاريخنا حافل بالأمثلة التي تؤكد أن إقامة الحدود وأَطر الناس على مظاهر الفضيلة ليست في صدارة أولويات الحكومة المسلمة، بل هي نتائج ضمنية للسياسة العامة. لنتذكر قصة عمر بن الخطاب مع عام الرمادة، ولنستحضر حوار ربعي بن عامر مع رستم. فربعيّ حين شرح وجهة نظر قومه لرستم لم يُشر للمنكرات التي حفل بها مخيّم قائد جيش الفرس، ولا تكلم عن الصلاة والزكاة. فتلك كلها توابع للقاعدة الأعظم والأهم التي تجلّت في قوله: أتينا لنخرج الناس من عبادة العباد لعبادة رب العباد. إن الحكومات المتّبعة لروح الإسلام، سواء أكانت مسلمة أو غير ذلك، تسعى في الأساس لتوفير معاني الكرامة والحرية، التي تضمن لمواطنيها أن يكونوا أسياد أنفسهم، بما يحقق لهم قيم النهضة والتنمية المنشودة، بدون استعباد ولا منّة. والحاكم “الإسلامي”، حتى لو لم يكن يدين بالإسلام، يُنتظر منه أن يقنع نفسه قبل مواطنيه بأنه موظف مستأمن عندهم، يملكون هم بالتبعية حق محاسبته. فلا يصير أحدٌ إلهاً في الأرض مقابل إله السماء. وذلك هو التجلي الأعظم لمفهوم العبودية لله الذي جاءت به دعوة الحق. أما الذين يسارعون لفرض قيم الوصاية على مجتمعاتهم، على اعتبار أن المواطن قاصر حتى يثبت العكس، وتتمحور خططهم لإدارة الحياة حول إغلاق الخمّارات، والفصل بين الجنسين في المدارس، وإنشاء حلقات التحفيظ، فهؤلاء يحملون مقاصد نبيلة في أصولها، لكن هذا النبل لا ينفي عن تلك الخطط سذاجتها، بل وكارثيتها. لا سيما إذا كانت الشعوب تعاني أولاً من الفساد والجهل والقمع. أي مكان للأخلاق عند أسرة لا تملك بيتاً، ولا تضمن لنفسها مستقبلاً؟! العرب قالت قديماً “تجوع الحرّة ولا تأكل بثديها”. لكن هذه المأثورات لا قيمة لها في عوالم تفتقد معاني الحريّة والاستقلال. مع ذلك، فسيحظى كل من يرفع شعار الإسلام، ولو زوراً، بالقبول. فالناس تظن أنها تتقرب إلى الله حين تقف خلف لافتة “الإسلام هو الحل”.. وهو كذلك. إلا أن ذات الناس إن لم تشاهد الحلول أمامها ماثلة بيد الإسلاميين، فستبحث عنها عند سواهم. وستبحث قبل هذا وذاك عمن يقدمها لها بدون أن يسرق ثرواتها أو يجيّر آمالها لصالح أطماعه أو يصادر حرياتها. الحكومة التي ستحقق ذلك ستكون هي الإسلامية بحق مهما كانت ملّتها؛ لأن الحاكمية، وإن كانت مرهونة بتطبيق الشريعة، فإن الشريعة مدارها على قواعد عامة أهمها: “الأمور بمقاصدها”. وأي مقصد أجلّ من إقامة العدل؟