حرية الرأي موضوع تاريخه مرتبط بتاريخ الإنسان في علاقته مع الآخر، فرداً كان ذلك الآخر أو جماعة. هذه العلاقة تتشكل من حيث قوتها وأصالتها، بما يملكه الفرد من حرية التعبير عن رأيه ومشاعره في القول أو الفعل، الذي حل به بموجب هذه العلاقة. العلاقة بين الفرد والآخر تكون معبرة بشكل حقيقي وصادق عن كنة العلاقة، كلما كان الفرد حراً في التعبير عن رأيه. حرية الرأي وتأثيرها الإيجابي على تكوين منظومة العلاقات بين الفرد والآخرين مهمة؛ في مجال العلاقات الشخصية العائلية أو غير العائلية لكنها، أي حرية الرأي، تأخذ بعداً أهم، ودوراً أكبر في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أي بين الفرد والدولة. وحيث إن حرية الرأي من أعظم وأهم الأسس والقواعد؛ التي تُبنى عليها العلاقة بين الفرد والدولة فقد نُصّ عليها في الدساتير، بعد أن نادت بها المدارس الفلسفية؛ التي تؤمن بحرية الفرد وكرامة الإنسان. وكما أن حرية الرأي لها دور وأثر إيجابي في إطار العلاقات الشخصية، فإن أثرها الإيجابي أعظم وأكبر في بناء العلاقة بين الفرد والدولة. حرية الرأي تجعل الفرد قادراً على التعبير عما يشعر به تجاه ما تقوم به الدولة من أمور تتعلق به وبمستقبله ومستقبل أبنائه، والمجتمع الذي يعيش فيه والوطن الحامل هويته والحاضن لتاريخه، دون خوف أو وجل. صدق المشاعر وصراحة القول مشكوك بها؛ في ظل الخوف على النفس والمال إلا ما ندر. حرية الرأي تجعل الدولة أكثر إيماناً وتصديقاً بما يقوله الناس عنها، لأنها تعرف أنهم غير مجبورين أو مأجورين، لذا فإنه في إطار حرية الرأي تكون معالجة الدولة للقضايا التي تمس المواطن، السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أقرب إلى تطلعات المجتمع ورغباته، وأقرب إلى الواقع والحقيقة. الدولة لا تلام إن هي أخطأت الهدف، أو لم تحسن الأداء، ما دامت هناك حرية للرأي مضمونة، فالكل هنا شركاء في الخطأ، الدولة والمواطن، أما إن كان باب حرية الرأي موصداً ودونه ما دونه، فالمواطن الفاقد لحرية الرأي لا يلام، وتتحمل الدولة الوزر بكامله. هذه المعادلة لا تصح فقط علي حالة وحدها أو مشروعٍ بعينه، وإنما تصح على كل أعمال الدولة وأفعالها وأقوالها. غياب حرية الرأي بمفهومها الحقيقي، وليس التقليدي في كل البلاد التي عمها الربيع العربي كان أحد العوامل الرئيسة التي أوصلت الأمور إلى دائرة الأزمة المستعصية بين الدولة والمواطن. تراكمت الأخطاء وتراكمت الأزمات، وأفواه المواطنين مقفلة وممنوعة من الكلام ومن الجهر بالقول عن الفساد وأسباب الفساد، وكيف يمكن علاج الفساد، حتى عمّ الفساد وكبر واستفحل، وأصبح التفكير في علاجه ضرباً من الخيال، أو شيئاً من الأمنيات المستحيلة. أصاب القنوط المواطنين، وفقد المصلحون الأمل في الإصلاح، وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، وهكذا دواليك، حتى جاءت لحظة الحقيقة، فكسر الشعب حاجز الخوف، وعلت الحناجر تطالب بالحرية والكرامة وتطالب مَنْ قيدوا حرية الرأي بالرحيل. هذا ما يتلوه علينا التاريخ العربي المعاصر، أما التاريخ العالمي فهو مملوء بالعبر والشواهد لمَنْ يريد أن يعتبر. قد يقول قائل إن لحرية الرأي قيداً لابد أن تربط به وإلا اختلط الحابل بالنابل، وأقول: القيد منافٍ للحرية لغة ومعنى، والقيد باب يلج منه مَنْ يريد أن يفرغ حرية الرأي من مضمونها وفعلها. نعم يجب أن تكون لحرية الرأي قواعد وقيم تنظمها ولا تلغيها أو تحد من دورها. هذه القواعد والقيم على مستويين: الأول فردي: حيث يفرض الفرد على نفسه معايير تضبط استخدام الحرية في الرأي، منها المعيار المنطقي، والمعيار العلمي، والمعيار الأخلاقي؛ والمستوى الآخر هو المستوى الجمعي؛ وهنا يضع المجتمع معايير وقيماً ترسم الفلك المجتمعي والأخلاقي لممارسة حرية الرأي. في المجتمعات الديمقراطية يرسم هذا الفلك ويؤطره ممثلو الأمة في برلماناتها. وإن تعذر ذلك، فالعرف والتقاليد المجتمعية هي التي تقوم بذلك. أما أن يوكل إلى الحكومات وضع ضوابط وقيود على حرية الرأي، فهذا أمر قد يفرغ حرية الرأي من مضمونها الحقيقي وهدفها الأساسي، وهو حماية الفرد من قوة الدولة. عندما يتعذر وجود قانون ملزم للدولة يحمي حرية الرأي يصبح واجب مؤسسات المجتمع المدني وأهمها في هذا المجال المؤسسات التي ينضوي تحتها المثقفون والأكاديميون والكتّاب، حماية حرية الرأي والوقوف في وجه المعتدين عليها، حتى يصبح هذا الموقف عرفاً ومبدأ مجتمعياً قوياً يصعب على وزير الثقافة أو الإعلام أو أي مسؤول كان تجاوزه والقفز عليه. منذ فترة هاتفني الأخ والصديق قينان الغامدي وطلب مني أن أشارك في كتابة مقال أسبوعي في صحيفة “الشرق” التي عُين رئيساً لتحريرها، والأخ قينان تربطني به صداقة صحفية منذ أيامه في صحيفة “الوطن”، فلم أستطع إلا قبول الدعوة شاكراً، ثم قلت له أرجو أن يكون في هذه الصحيفة الجديدة إضافة نوعية ومنبر، يأخذ حرية الرأي مسافة إلى الأمام. بعد انتهاء المكالمة، وإذ بسؤالٍ يلح عليّ: كيف قبلت وأنا الذي قررت الانسحاب الجزئي من الكتابة الصحفية؟. كنت قد أحسست منذ فترة ورغم ما يقال عن الانفتاح، بأن الكلمة أحياناً تقف في صدري وتمنع من الخروج كما أريدها. شرطي الوحيد عندما أكتب أن يُقبل المقال كله أو يُرفض كله إلا من تصويبات أقبل بها ليست لها علاقة بجوهر الموضوع. لم أتردد في قبول الدعوة إلى الكتابة، لأن الأمل كان أقوى من الإحباط، وفقدان الأمل في الإصلاح والحرية يفرغ الحياة من معناها الحقيقي.