الإسلام دين حساس جداً تجاه الشعارات والرموز التي يفرضها واقعٌ ما، ذلك أنها قد تقود لإشكال في فكرة التوحيد ومناهضتها من جهة، ومن جهة أخرى فإنها قد تؤدي إلى (دربكة) فكرية تعتزل الواقع وتحلق في أعالي النخب. ولو تأملنا بعض الشواهد في هذا السياق نجد مثلاً أنَّ الرجل كان يأتي من خارج المدينة فيسأل أيكم محمد؟ لا يستطيع تمييز الرسول عليه الصلاة والسلام من صحابته!، وقد حرص الرسول الكريم على بث هذه الفكرة في أكثر من حادثة ولعل واحدة منها عندما غير اسم امرأة من عاصية إلى جميلة وربما توقع الواحد منا أن يكون الاسم الجديد (مطيعة) لكن الرسالة واضحة هنا، ولعل النساء هن الأسعد بهذا الحديث ودلالته. إنَّ بشرية الرسول عليه صلوات الله، ومشيه في الأسواق بل وتوجيهه وعتابه بآيات معلنات كما في عبس وقصة زيد، إشارة إلى ضرورة إحداث التقارب بين المقدس المتعالي والواقع ذلك أنَّ واحدة من أكبر إشكاليات الترميز هي (عزل) الفكرة الدينية عن الحياة عبر الاستغراق في تقديسها حتى لا تتلوث بالواقع زعماً،وهذا الاتجاه تلمحه في الحوارات الفكرية من أطراف شتى، ذلك أنَّ تمرير الأفكار وتعزيز القناعات يتم عبر منهج البلاغ المبين وذلك بالحجة المقنعة والحوار الهادئ القائم على إعمال الفكر كإحدى صور إعلاء الفردية مقابل تغول العقل الجمعي، ومع زخم المناشط الدينية حفلت الصحوة ببعض هذه المظاهر مثل الاتكاء على رمزية (الإسلامي)، فمثلاً هذه تسجيلات إسلامية، وذلك زواج إسلامي وما واكب الالتزام بمظهر ما، وهناك أيضاً ترميز التائبين فمن كان ذا توجه أو حضور معين يصبح بعد تدينه رمزاً (بالقوة) يعرف به الحق لا العكس. وهذه على كل حال طريقة في التفكير سائدة لدى مختلف الفئات واصطبغت بها الحالة الدينية كواحدة من مظاهر الخلل في العلاقة بين الصحوة ومحيطها، فالقبيلة مثلاً أصبحت في كثير من الأحيان رمزاً يستدعى عند الحمية والتفاخر، وليست مظلة تفاعلية مستمرة بناءة، وفي الحالة الإدارية فإن المسؤول الرمز بعد تقاعده أو إقالته يصبح -حتماً- مستشاراً وكأن رمزيته الإدارية قدر لا ينفك عنه، وفي المجال الثقافي/ الفكري سادت ظاهر (التقاط) الرموز لا (صناعتها) عند التحول من منهج لآخر وقد حفل الحراك الليبرالي بظاهرة (سلق) هؤلاء الرموز بسبب تصريح داعم أو فكرة مؤيدة ثم ما يلبث أن ينقلب عليه و(يحرقه) عندما يتبنى فكرة مخالفة، ومن ذلك أيضاً وضع العربة قبل الحصان عند إحداث حراك من نوع ما، فمصطلح مثل التنوير مثلاً لابد أن يأتي وصفاً طبيعياً لاحقاً كاستحقاق للجهد المبذول لا أن ندعي التنوير ونلوذ بدلالته ثم ننطلق كما يحلو لنا بلا معالم منهجية واضحة غير الاستنجاد بالشعار عندما يغير علينا المخالفون. ولهؤلاء وأولئك نقول لهم ليس شرطاً أن يكون المرء فارس كل المراحل فهذا أبو سفيان رضي الله عنه لا يحضر في الذهنية العامة إلا رمزاً قبل إسلامه وبعد أن أسلم ونال شرف الصحبة لم يكن له ذلك الوهج والحضور السابق. تقود ثقافة الترميز والشعار إلى عدة نتائج سالبة منها التزكية الذاتية انطلاقاً من المظلة لا ما ينتج عنها وهذا بدوره يؤدي لتوهم الكمال ويجعل من مجمل الحالة عصية على النقد لا ترى فيه فرصة للتصحيح بقدر ما يكون النقد في حسها هجوماً ونفياً ممَّا يجعلها تتمترس حول أوهام من العلائق النرجسية، كما أنَّ هذه الثقافة تؤسس لفكر التصنيف -الإجباري أحياناً- والانشغال به مما يربك المجتمع ويضعف قوته. ومن النتائج أيضاً تكريس التفكير بعقلية الحزب حتى لو لم يتوافر المشهد على أحزاب وجماعات تعلن عن نفسها. وممَّا يترتب على هذه الثقافة التعمية على الأمراض العميقة والتي تضرب أساس البنيان والانشغال بالأعراض الظاهرة. إنَّ الثقافة الخاطئة الناشئة عن التعاطي مع الرموز تنبئ عن حالة من الكسل الفكري والثقافي لدى الجمهور والأتباع مما يجعلهم في خانة المشاهدة والتشجيع على التحريض بنوعيه السياسي والاجتماعي لتختلط الأوراق وتضيع المصالح . إنَّ هذه المقالة لا تقصد نفي فكرة الرمز بل تدعو لترشيد الثقافة الناشئة عن التعاطي مع الشخوص والقضايا كحالة رمزية أو شعاراتية طاغية كما أنَّ (الهوية) كرمز لا تدخل في مثل هذه المعالجة لكن للأمر علاقة بفكرة (التمثيل) هذه العقدة السعودية الكبرى التي سنناقشها الأسبوع القادم..