قضيت عدة سنوات أشارك كتابة وقراءة في المنتديات الإلكترونية ذات الصبغة المحلية التي ترفع شعار الليبرالية، وكانت تجربة ماتعة فيها الكثير من الفوائد بالنسبة لي، كان ذلك الواقع الافتراضي يتجاوز في تقنين المصطلح عند الحوار، فكان التعبير بالإلحاد يضم تحت رايته بالإضافة للمعنى المباشر من إنكار وجود الخالق الرؤى والأفكار اللادينية واللاأدرية والشك وكذلك الطروحات الساخرة والمستهزئة بالمقدس وغيرها، وهذا ما سأختزله هنا تجاوزا واختصارا. أستطيع القول إن تحليل ذلك الطرح الإلكتروني ومقاربته ستذهب بنا نحو تفاصيل المرحلة برمتها لنخرج بنتائج في اتجاهات عقدية وتربوية وثقافية وفكرية تصلح أن تكون عوامل تهيئة متعاضدة أفرزت نسيجا ثقافيا غير متجانس لكل منمنمة فيه قصة ووراء كل خيط فيه حكاية. لقد كان الولع شديدا بوراثة الصحوة على طريقة التنوير الأوروبي، ورغم أن الصحوة لم تكن حالة ثيوقراطية على الطريقة الكنسية فإن الحراك الفكري استمر في شغفه بقراءة الأمر هكذا... أدى ذلك إلى إيجاد مرحلة فيها من (التقليد) الكثير ومن (الصناعة) القليل، مرحلة تقرأ فيها كتب الفلسفة والإصلاح بإسقاطات مسبقة ونوايا مرصودة لخدمة واقع مختلف تماما عن الواقع الذي خدمته تلك الأفكار في مرحلة ما، كان الأمر جليا عند تأمل كثير من الجمل في الحوارات، كانت تلك العبارات كوضع الحافر على الحافر عند استعراض الروايات الغربية التي عالجت إشكالات دينية (غير إسلامية) من منطلقات فكرية وسياقات تاريخية محددة حين تعاملها مع مقدساتها غذى هذا الأمر السجال الكبير في المشهد الثقافي الذي حرض على الاصطفاف وشجع على التحزب. ومن الملاحظ عند تحليل تلك الموضوعات وجود تساؤلات وشكوك على قدر كبير من الأهمية والصدق في السؤال عنها... تساؤلات حول الخلق، حول الاختيار، تساؤلات عن ضعف أو غياب العدالة الاجتماعية في المجتمعات المتدينة المعاصرة، واستفهامات عما يعبر عنه ب»المظالم الكونية»! أيضا فإن أسئلة حائرة تصب في إسقاطات تتعلق بتخلف المسلمين الحضاري والسلوكي، يعزز ذلك كله الرغبة العارمة لدى فئة الشباب لتبني (مشروعات) يثبتون من خلالها ذاتهم ويشعرون بدور في مجتمعاتهم... كل تلك الأسئلة وما يدور في فلكها لم تؤخذ على محمل الجد بصورة كافية من قبل المراقبين للحالة الإلكترونية، وفي ظني أن الوضع كان يحتاج إلى برنامج حوار إلكتروني على غرار حملة السكينة التي حاورت تنظيم القاعدة، يكشف الأمر أيضا مقدار المسافة بين السادة علماء الشريعة والدعاة والمثقفين الجادين من جهة وبين الجيل الجديد من الشباب من جهة أخرى كما أنه يلقي بظلاله على ضرورة إعادة النظر في طريقة تعليم العقيدة والتربية على التوحيد بحيث يمكن وبلغة عصرية معالجة تلك الأسئلة بإجابات تصب في توقير الله عز وجل وربط ذلك بالعلم ربطا يخدم عقيدة الفرد ولا يكتفي بالانتصار للمنهج!، وإجابات تضيق الخناق على ذلك الفصام الذي يعاني منه المجموع ليصبح الفرد متفوقا على ذاته متخلصا من قهر الضمير الجمعي الذي يمارسه عليه التخلف العام، وإجابات تحسن خلق علاقته بالكون وتضع تصورا يليق بتكريم الخالق للإنسان بحيث يمكن التفريق بين قيمة الحياة الدنيا كما هي في عقيدة المسلم وبين قيمة حياة ذلك المسلم في تلك الحياة الدنيا!، وإجابات واقعية يمكنها التعامل مع رغبة الشباب في الاعتناق والتدين عبر ضبط البوصلة ليكون تدينا في الاتجاه الصحيح مع الحاجة للإفادة من خدمات العلوم الإنسانية المعاصرة في مجالات علم النفس والاجتماع والتربية التي تم إغفالها في فترات سابقة، وإجابات تزيح الستار عن مفاهيم رحمة الله وعدله في الخلق وفي الأقدار وفي الاختيار؛ إذ كما لاحظت يمثل هذا الأمر تحديدا ثقيلا كبيرا على أصحابه ليظل البيان الشافي مؤجلا إلى حين. ومما تجدر الإشارة إليه حول الإلحاد الإلكتروني -ولعلها من طرائفه- ذلك المنطلق الطائفي لبعض الأقلام، فتجد الإلحاد الإلكتروني يتوجه بالنقد والسخرية من طائفة معينة فقط يسميها بعينها وهذا يبدو غريبا ومتناقضا مع الموقف الواضح والمتوقع من جميع الأديان، إذ كيف يصاب بالتحيز ضد طائفة واحدة من المسلمين؟! هذه الإشارة أعرضها سريعا للإبانة عن ذلك الخلط -مقصودا كان أو غير مقصود- بين القضايا وكيف يمكنها أن تتكئ على بعضها لتخدم بعضها في تحالف يزيد العبء على من يتصدى لقراءة الأفكار ومعالجتها. إذن: لدينا ثلاث مظلات، مظلة فكرية ومظلة علمية/ نفسية وثالثة للمناكفة والجدل ترفد كلها الحالة التي تسمى (الإلحاد الإلكتروني) مع التجاوز في دقة المصطلح كما ذكرت، ويستوجب منا ذلك التخلي عن حالة (الإنكار) التي يمارسها البعض تعاليا على المرحلة أو عجزا عن استيعابها، فإن التعامل مع هذه الظواهر يكون بناء على النوعية لا العددية، ولأن التبكير في اقتناص الفكر والتعاطي معه دليل حضور وتفوق.