من أكثر الأمور بداهة في الدراسات التاريخية هي الخلاصة التالية: هناك تصوران للتاريخ يفسرانه أو يؤولانه: التفسير الديني والتفسير التاريخي. الأول سيطر على ذهنية الحضارات القديمة من خلال الكتب المقدسة والمثيولوجيات والأساطير التي شكّلت الوعي البدائي بالعالم والكون. أما التفسير التاريخي فقد بدأ مع تشكل الحضارة الحديثة ومع تنامي الدراسات التاريخية النقدية التي فتحت الباب بنقد العهد القديم بمناهج علمية تحمل روح الشك والحس التاريخي الطارد لكل حس أسطوري، لا ينسجم مع المنطق العقلي. بدءاً بالمنهج الفيلولوجي الذي يعلي من شأن اللغة كمفتاح لفهم المجتمعات وثقافاتها، وصولاً إلى المناهج المقارنة التي تغذت على جميع الحقول المعرفية المختلفة من فلسفية وعلمية واجتماعية ولغوية واقتصادية وسياسية، حسب الاهتمام الذي يبديه الباحث أو المتخصص في هذا الحقل أو ذاك. بالإضافة إلى ذلك فإن منهج الحفريات فتح الباب واسعاً للدراسات التاريخية أن تتطور، وأن تعيد قراءة التاريخ في ضوء اكتشافاتها للآثار التاريخية التي كانت الهاجس الأكبر للباحث التاريخي خصوصاً في القرن التاسع عشر. هذه الإطلالة السريعة، ماذا نريد من ورائها؟ بداية نريد أن نوضح أن هذين التفسيرين اصطدما ببعضهما البعض، خصوصاً عندما طال النقد التفسير الكنسي للعهد القديم. ولكن شيئاً فشيئاً بدأ التفسيران يتصالحان منذ عمّت الحداثة ومكتسباتها المجتمعات الغربية، بحيث أصبحت ذهنية الفرد تتقبل التفسيرين رغم التناقض الواضح فيما بينهما في رؤيتهما للتاريخ. وعندما نتساءل: لماذا هذا التساكن والتصالح في ذهنية الثقافة الأوروبية؟ تكمن الإجابة في تصوّري في التبدل الذي طرأ على مفهوم الإيمان والتدين، فالإيمان والتدين القائمان (هاتان الكلمتان مترادفتان في المعنى هنا رغم التفريق الذي تقيمه الدراسات فيما بينهما، التي عادة ما ترتبط بفلسفة الدين. لكنه تفريق يختص ببعض الحقول المعرفية التي لا تمس موضوعنا مباشرة) على القيم الميتافيزيقية التي تتغذى على المخيلة والأسطورة، تأثراً بفعل مكتسبات عصر التنوير والحداثة، بحيث أصبح المنطق العقلي يغذيهما أيضاً دون أن يلغي تلك القيم، وأصبحنا نرى بالتالي الفرد الغربي أكثر تسامحاً فيما يخص حرية المعتقد والأديان. هذا التصالح الذي أدّى إلى هذا النوع من التسامح لم يأتِ إلا بعد قرون من التحوّلات المعرفية والنكبات والحروب التي عاشتها أوروبا. ربما هناك تفسيرات عديدة يمكن من خلالها شرح تطورات هذا الإيمان العقلي الذي حظيت به هذه الحضارة، لكنني أزعم هنا أن ارتباط هذا الإيمان بفكرة التسامح في علاقتها بالتصور التاريخي هو منظور تحليلي أهدف من خلاله إلى تبيان وجه المقارنة بين ما عاشته أوروبا في تحولاتها وما وصلت إليه من إيمان عقلي لا يصطدم بيقينيات التفسير الديني ولا بدوغمائيته ولا يلغي فاعلية العقل من هذا التفسير، وبين إيمان المسلم وتدينه في العالم الإسلامي. حقيقة الأمر هذه معادلة صعبة لا يمكن أن يستوعبها بسهولة، إنها صعبة الهضم، لأننا لم نختبر هذه التجربة في تاريخنا البعيد (رغم الاستثناءات التي حظي بها التاريخ الإسلامي في بعض عصوره من علماء وتيارات فكرية وفلسفية قاربت هذه التجربة) ولا في تاريخنا القريب. الإيمان الذي يوسع للعقل في سلوكه ونظرته للآخر هو إيمان وثيق الصلة بإدراك أن التاريخ هو صنيعة الحاضر، والإيمان الذي نكتسبه بالوراثة أو التربية أو الثقافة هو جزء من هذا الحاضر. ولو تساءلنا عن معنى هذا الكلام بصورة أخرى فإننا بشيء من التبسيط نقول: إن اختلال العلاقة بيننا وبين الغرب المسيحي يكمن في أهم قيمة مشتركة وهي قيمة الإيمان بوصفها قيمة ارتبطت هناك بالمسيحية وهنا بالإسلام، وبحكم ارتباطهما بالأديان السماوية كان يمكن من خلالها أن يتأسس تاريخ مشترك قائم على تاريخ هذه المفردة. لكن التاريخ الفعلي يقول غير ذلك، وهو تاريخ بطبيعة الحال قائم على المنازعات والحروب والاستعمار كما هو معروف. لكن من طبيعة المؤرخ أن يفترض بعض المفاهيم ويربطها ببعض الأحداث، كي يستنتج تصوراته الخاصة حول التاريخ، ولكي يصل أيضاً إلى فهم أعمق وربما عقلاني للعلاقة التي تربطه بتاريخه. هذا العمل هو ما قام به المؤرخ الغربي وبالتالي جدّد تصوراته لتاريخه بما يتواكب وهموم حاضره، وبالتالي جدّد كل تصور لقيمه التي ورثها. نحن مازلنا ننتظر من يفتح الباب وإن كان موارباً الآن. هذا هو معنى الاختلال الذي نشير إليه هنا تحديداً.