كم هم أولئك الوزراء الذين تسنموا المناصب، طيلة عقود، في بلادنا؟ ووراءهم كان ثمة طابور من الوكلاء والمساعدين والمستشارين، غير أنهم ما يغادرون ساحة المنصب حتى يختفون..! تختفي تجاربهم العملية وخبراتهم وقراراتهم.. وقصصهم.. وكأنهم أصبحوا نسياً منسياً. ألم يكونوا يوماً في قلب المهمات الصعبة؟ وأقصد في قلب التنمية والبناء، واتخاذ القرارات، ومباشرة المهمات الرسمية (سرية ومعلنة)، وتوقيع العقود وإدارة المشروعات وعقد المؤتمرات والتقاء الوفود العربية والأجنبية... لماذا يتقلد المسؤولون الجدد مناصبهم دون أن يتعرفوا، عن كثب، على التجارب والصعاب التي مر بها سابقوهم؟ لم أكن لأكتب هذه الخواطر، لولا تواردها على ذهني وأنا أقرأ كتاب الراحل غازي القصيبي (الوزير المرافق). يصف القصيبي ما يجري أحيانا خلف الكواليس الرسمية والبروتوكولات معلقاً وهامساً وملاحظاً أمام شخصيات صنع بعضها التاريخ وبعضها كان خارجه حتى وإن حارب الدنيا ليكون داخله...! يزور القصيبي صانع تونس الحديثة، الحبيب بو رقيبة، موضحاً صورته الوطنية الخالصة، صورة مناضل هجر من بلاده سنوات طويلة ليعود مجاهدا وقائدا لنهضة بلاده. يقول له من مقره في الريف شبه منفي، «يا ابني.. إنني إنسان بسيط وعادي،.. إنسان من هذا الشعب». بعد ثورة تونس الأخيرة لا يزال ذلك المجاهد ضوءاً في قلب شعبه، فيما يحاول الناس نسيان صور العسكر الذين خلفوه ليقودوا البلاد إلى هوتها الأخيرة ...في فصل آخر يروي القصيبي كيف يحدث البروتوكول فوق بلاط البيت الأبيض لنرى الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون وهو يمشي على هيئة الطاووس، أو ما لا يفترق كثيراً عن زعماء العالم الثالث ولا يفترق هنري كيسنجر أيضاً عن نيكسون في ولعه المتعالي بالقوة، وعن التعبير عن آرائه القاسية، المصادمة لمشاعر أي عربي، والتي تكشف عن رؤيته المتحيزة للنزاع العربي الإسرائيلي، وعن سعادته بالدروس المرة التي تمر بها بعض الدول العربية. يذهب الوزير المرافق إلى استعراض العلاقات المميزة بين المملكة وألمانيا، وخاصة قبل أن تصبح ألمانيا طرفاً ثابتاً في التكفير عن جراح الحرب العالمية الثانية باسترضاء إسرائيل. كان يمكن لهذه العلاقة أن تتصاعد لتصبح أكثر استراتيجية، لكن الرياح السياسية تهب فيخفت حماس ذلك التعاون... وأخيراً هناك قصص القذافي. المعلن منها والمقروء، لكن كم أن أغلبها بعيدٌ عن كل حكمة بما فيها حكم «الكتاب الأخضر» الذي أعجزنا ونحن نتخاطف نبوءات كتابه في مطلع وعينا. في الرياض أصرت حرم القذافي على زيارة أسواق الرياض دون حرس أمني سوى مندوب المراسم الملكية، لكن صلاة الظهر حلت فتقدم أعضاء هيئة الأمر بالمعروف لإيقاف النسوة اللواتي كن لا يرتدين الملابس المحتشمة، ولم يكن ليعرفوا أنهم يفتحون جبهة مع العقيد الذي أمر بتجهيز طائرته والعودة إلى بلاده، لكن تدخل الملك خالد ساعد في انفراج تلك المشاعر المشحونة التي لم تكن حاجة إلى من يزيدها وقودا. قصص قصيرة وأحداث تقع في خلفية المشاهد البراقة والرسمية وصور التهذيب، لكنها تقول أحيانا ما لا تقوله الخطب والكلمات المصقولة أمام الكاميرات.. تلك هي المقدرة النافذة لكاتب ومسؤول نادر عبر في سمائنا كشهاب لا يوصف.